كتب الفيلسوف الفرنسي البير كامو ذات يوم انه لم يكن ينتظر ماركس كي يعلمه معنى الفقر، فقد تعلمه منذ طفولته في الحي الفقير الذي عاش فيه في الجزائر، وكتب فيلسوف آخر انه لم يتعلم كيف يحب من شكسبير ومن مسرحية روميو وجولييت، ذلك ببساطة لأن الفقر أقدم من ماركس والحب اقدم من شكسبير والموت اقدم من كل ما كُتب من المراثي!
وهناك حكايات بدت لي عابرة في طفولتي لكن عندما اتأملها الان اشعر انها اهم من كل الكتب التي قرأتها فيما بعد، فالقرية احيانا هي مصغّر للكوكب كله بأنماط انتاجها وصراعها الاجتماعي والتفاوت الطبقي والبحث عن النفوذ، ومن كان يملك الارض والمَعاصِر البدائية في النصف الاول من القرن العشرين كان يتحكم بمصائر الناس من حوله، فلم يكن خيار الهجرة قائما يومئذ، ومن تلك الحكايات ما روته لي امي التي لم تسمع باسم روزا لوكسمبورغ فقد همست بأذني ان الصراع الدائر في بلدتي يومئذ حول رئاسة البلدية كان بين خالي وأخي غير الشقيق، وذات يوم تصالحا لأمر تعلمه أمي ولا يعلمه الآخرون وهو انهما زرعا محصولا معيّنا، واتفقا على اعفائه من الضريبة، قرأت كثيرا بعد ذلك عن الرأسمالية والاشتراكيات على اختلاف اسمائها، لكن ما فهمته مبكرا وتحول بالفعل الى نقش على حجر كان بيت القصيد في الدراما كلها.
واتاحت لي طفولتي ان احزر النفاق والكذب والغدر دونما حاجة الى فحص من طراز البَشْعة، لهذا كانت الكتب إضاءة وتعميقا لتجارب أولى ولا اظن ان كتب العالم كلها تكفي الانسان اذا كان عديم التجارب، فهو اشبه بذلك المعلم البريء في رواية زوربا والذي كان يحسد صاحبه الامي على خبراته في الحياة ويصف نفسه بأنه قارضُ كتب فقط كالفئران !
ومن تلقى لقاحات وأمصالا مبكرة ضد النفاق والممالأة والكذب والادعاء ضمن عدم الاصابة بهذه الاوبئة والأم التي لم تقرأ ماركس ولم تسمع بروزا لوكسمبورغ ادركت بالفطرة ان الصراع من حولها رغم انه يخصها له دوافع شخصية خالصة، وان الناس هم ضحايا هذا الصراع .
لقد فهمت سايكس بيكو في صباي على طريقة امي، وها أنذا احاول فهم كيري ـ لافروف على طريقتها ايضا فاقتسام الغنائم لا يختلف كثيرا عن اعفاء محصول في قريتي من الضريبة وعيّنة صغيرة واحدة تكفي لتشخيص الداء!
الدستور