قمة باريس .. عظام مقابل مناسف؟!
د. رلى الفرا الحروب
14-07-2008 03:00 AM
التطورات التي أسفرت عنها قمة باريس ليست هامة وحسب، بل إنها تشكل علامة فارقة في العمل السياسي والدبلوماسي على الصعيد الدولي.
فكرة الاتحاد من أجل المتوسط بحد ذاتها ورغم نبلها الظاهري إلا أنها في الواقع تقترب كثيرا مما وصفها به القذافي حين اعتبر أن الاوروبيين يلقون بفتاتهم للعرب مقابل إضعاف مؤسسات أخرى وحدوية كجامعة الدول العربية والاتحاد الأفريقي والوصول إلى تطبيع مجاني مع إسرائيل دون إلزام الأخيرة بالحد الأدنى العربي المقبول الذي صاغه العرب على هيئة مبادرة السلام العربية عام 2002، وهو ما تجلى في رفض إسرائيل حضور الجامعة العربية القمة كمراقب بحجة أنها تتخذ مواقف أحادية الجانب من إسرائيل.
الاتحاد من أجل المتوسط ليس عملا خيريا تقدمه دول العالم الأول إلى العالم الثالث، وإنما شكل متقدم ومتطور من إعادة الهيمنة الفكرية والثقافية والتربوية إضافة إلى الهيمنة الاقتصادية وحتى الاجتماعية وصولا في نهاية المطاف إلى هيمنة سياسية غير مباشرة على قرارات الدول العربية المستهدفة.
لقد علمنا الغرب أنه لا يقدم المعروف لوجه الله تعالى، ومنظومة العالم العربي كما يسميه الغرب باتت منظومة مقلقة للنظام العالمي الجديد ومصدر خطر على أمنه، ومن ثم فإن العمل جار على قدم وساق لإعادة تشكيل ذلك العالم وفق مفاهيم الغرب ورؤيته بما يضمن تقليع أشواك تلك الشعوب جنوب المتوسط وشرقه وتحويلها إلى قطط أليفة تنتظر صحن الحليب الذي تقدمه لها ربة المنزل.
هنالك بالطبع رغبة في تجسير الفجوة الاقتصادية والحضارية بين شمال وجنوب المتوسط للحد من الهجرات العربية والأفريقية إلى أوروبا، وهي هجرات باتت تهدد هوية أوروبا المسيحية البيضاء إلى حد كبير، ولكن المطامع الاقتصادية والثقافية والسياسية أكبر بكثير من هواجس الهجرة ولا تقل أهمية عن مخاوف الإرهاب.
مسألة إشراك إسرائيل مع الدول العربية التي لا تتمتع بعلاقات طبيعية معها ضمن إطار من العمل والتنسيق المشترك تجاه مختلف القضايا في الاتحاد من أجل المتوسط هي أيضا مثلب آخر من مثالب الفكرة، كما أنها في الواقع إحدى أهم أهدافها فالاتحاد الأوروبي في ظل قيادته الفرنسية الحالية بات يفتش عن وسائل مبتكرة لجر العرب إلى التطبيع مع إسرائيل وكسر الحواجز النفسية دون إعادة الحد الأدنى من الحقوق العربية المغتصبة التي لا تنوي إسرائيل التخلي عنها، وقد لمسنا هذا الاتجاه في أكثر من مؤتمر ومناسبة وحدث تم تنظيمها تحت ذرائع عدة وبمسميات مختلفة في دول بعضها عربي ويتمتع بعلاقات طيبة مع إسرائيل.
وبغض النظر عن طبيعة النوايا خلف موافقة العرب على حضور تلك الأحداث والمشاركة فيها فإن الغرب يحقق أهدافه تدريجيا ودون أن نشعر.
على صلة وثيقة بالفكرة تبدو نواتج الاجتماع الأول في باريس مفاجئة في قوتها وسرعتها وفاعليتها، فما حققه ساركوزي في يومين عجز بوش عن تحقيقه في ثماني سنوات، وهو ما دفع بالكتاب الإسرائيليين إلى التعليق على نواتج تلك التحركات الساركوزية قائلين إن ساركوزي يسعى إلى خلافة بوش.
في قمة باريس وافقت سوريا على تمثيل دبلوماسي في لبنان وهو ما كانت ترفضه منذ الأزل باعتبار لبنان قطعة منها تم اجتزاؤها (وللمفارقة) إثر اقتسام فرنسي- بريطاني للمنطقة أعاد رسم خارطتها وفق مصالح الاستعمار.
محافظة جبل لبنان التي كانت جزءً من سوريا قبل اتفاقية سايكس بيكو تذكر السوريين بحادثتين مؤسفتين أولاهما في لواء الاسكندرونة وثانيهما في هضبة الجولان، ومن ثم فقد كان الموقف الثابت للرؤساء السوريين المتعاقبين منذ إعلان استقلال كل من سوريا ولبنان رفض التمثيل الدبلوماسي.
الرئيس بشار الأسد قدم إذن تنازلا كبيرا لساركوزي رغم محاولاته تقليل حجم ودلالة ذلك التنازل بإعلانه أنه كان جاهزا لذلك التمثيل منذ ثلاث سنوات (أي منذ خروج سوريا من لبنان) ولكن الطرف اللبناني لم يهتم بالتقاط تلك الجاهزية آنذاك، أما التنازل الأكبر فهو إعلان الأسد موافقته على إجراء مفاوضات مباشرة مع إسرائيل وهو ما كانت ترفضه سوريا منذ زمن، ولكن مرة أخرى أراد تأطير تلك الموافقة ضمن ثوابت المسارين الفلسطيني واللبناني، علاوة على الجولان، بحيث لا يبدو وكأن سوريا فد تخلت عن ملفاتها التي كانت تدافع عنها تحت مسميات العروبة ووحدة المصير والدفاع الاستراتيجي والأمن القومي.
إنجاز آخر هام يسجل لساركوزي في تلك القمة هو إعلان أولمرت استعداده لإطلاق سراح الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية بمعزل عن صفقات تبادل الأسرى الدائرة مع حماس وحزب الله.
أولمرت قال إنه سيفعل ذلك كبادرة حسن نية يقدم بها عربون ثقة للسلطة الفلسطينية برئاسة عباس، وإن التزم أولمرت بذلك فستكون هذه هي المرة الأولى في تاريخ إسرائيل التي تقدم فيها على مثل هذا العمل، فملف الأسرى والمعتقلين هو أحد الأوراق التي توظفها إسرائيل لإذلال الشعب الفلسطيني وكسر إرادته، ومن ثم فإن تخليها عن تلك الورقة ولو مؤقتا لا بد أن يكون في مقابل شيء ما بل وشيء مهم.
لقد عودتنا إسرائيل على أنها لا يمكن أن تلقي للعرب أو للفلسطينيين بعظمة إلا إن حصلت على منسف، وإن كانت أوروبا في علاقاتها مع العرب تفيد وتستفيد فإن إسرائيل تستفيد فقط ولكنها توهم الآخرين أنهم يستفيدون بدورهم.
عباس بدوره أعلن في قمة باريس تفاؤله بقرب التوصل إلى اتفاق سلام مناقضا لإعلاناته السابقة في الأسابيع الأخيرة في ظل الوساطة الأمريكية وجولات رايس المكوكية، وهو شعور شاركه فيه أولمرت الذي قال: "أشعر أننا أقرب إلى السلام من أي وقت مضى".
بركات ساركوزي لا تستند إلى سحره أو سحر زوجته الجميلة كارلا، والإنجازات التي تحققت في القمة لا يمكن أن تكون وليدة مجهود طارئ، ولا شك أن التنازل المحدود الذي ستقدمه إسرائيل – إن قدمته- ستجني أضعافه في رصيد أرباحها، فهي أولا تحيد الفلسطينيين والسوريين واللبنانيين وتحاول أن تبقيهم على ما يبدو خارج دائرة الصراع العسكري المحتمل المقبل مع إيران، كما أنها تسجل نصرا إعلاميا دعائيا أمام عدسات العالم بإظهار حسن النوايا، وهي ثالثا تجني تعاونا أكبر مع شريحة واسعة وحيوية من القطاع الخاص الأوروبي كانت تتجنب التعامل مع إسرائيل كي لا تخسر شركاءها العرب، وهو ما يمكن الاستدلال عليه من زيارة ساركوزي لإسرائيل والتي اصطحب فيها عمالقة الاقتصاد الفرنسي والقطاع الخاص في مجالات الاتصالات والتصنيع الحربي والسيارات وغيرها، وهي رابعا تجد نفسها وجها لوجه في علاقات ودية مباشرة مع الدول العربية التي لم ترتبط معها بمعاهدات سلام بعد، وهو ما يهيئ الأجواء أمام تطبيع علني جريء بعد مراحل من التطبيع الخفي الخجول.
علاوة على كل ما تقدم فإن أولمرت يحاول رد بعض الاعتبار السياسي لشريكه في العملية السلمية عباس، فلا يعقل أن يكافئ أعداءه في حزب الله وحماس ويبقي صديقه وحليفه عباس ضعيفا أمام شعبه عاجزا عن تحقيق أدنى مصالحه وهي الإفراج عن الأسرى في المعتقلات الإسرائيلية.
تستطيع إسرائيل أن تعتقل الفلسطينيين من معظم المستويات السياسية والاجتماعية في أي وقت ومكان تختاره، وإفراجها عن آلاف الأسرى في سجونها يمكن أن تمارس عكسه في بضع ساعات لتجمع آلافا غيرهم كما عودتنا من قبل، ومن ثم فإن العظمة التي تقدمها للفلسطينيين ليست إلا كرة صوف مربوطة بحبل في يدها، وإسرائيل ليست ولم تكن في أي يوم بحاجة إلى أعذار لتبرير اعتداءاتها المتكررة على الفلسطينيين، مع أن تقديم تلك الأعذار بات من مهمة بعض الفصائل الفلسطينية التي تفعل ذلك عمدا أو بدون قصد، فعملية واحدة غير مدروسة أو تصريح ناري هنا أو هناك كفيلان باسترداد كرة الصوف بل والتنكيل بالقطة.
الشهور الستة القادمة حبلى بالأحداث، وملامح صفقة واسعة بدأت بالظهور، وهي صفقة شعارها الانفراد بالثور الأبيض فالأحمر فالأسود وصولا إلى غابة شرق أوسطية يضحي فيها الذئب ملكا تقدم له القرابين والطاعات، وغابة أخرى معولمة ينصب فيها سبع غير شرعي نفسه زعيما رغما عن أنوف كل الحيوانات!!!
الانباط