حين يصبح التنوير فعلا ظلاميا
سامر حيدر المجالي
12-07-2008 03:00 AM
هنالك شواهدُ كثيرة تدل على أن سبب تحول النقاشات التي نتناول من خلالها شؤوننا العامة ، إلى مهاترات وقصف متبادل بين خنادق متقابلة ، هو غيابُ المنهج الواضح الرصين القادر على أن يحمل فكرة ما ويخضعها للمناقشة والتقييم . بل لن نكون مغالين إذا قلنا أن السبب هو غياب الفكرة نفسها ، فالخلافات عندنا سرعان ما تبتعد عن هدفها الأساسي وتلغي الشروط الموضوعية للنقاش الدائر ، لتتمحور حول شخوص بعينهم وتختزل الحوار كله في نطاق ضيق لا يخرج فيه الشخص المقابل عن حالتين : فإما أن يكون ( مع ) بإطلاق أو ( ضد ) بإطلاق كذلك .ودعونا نكن في قمة الصراحة ، فبرغم الادعاء بأننا نعيش في دولة القانون والمؤسسات ، وبرغم دعوات التنوير والإصلاح التي ينادي بها الكثيرون ، إلا أن قطاعا عريضا من الجمهور ومن رموز العمل الإعلامي والسياسي مازال عاجزا عن أن يخرج من حالته الجنينية التي تشده حسب تصوره إلى دولة عليها أن تبقى مهيمنة على كافة شؤون الفرد والمجتمع ، كبيرها وصغيرها . هذه الصورة تجعل من السياسات العامة في نظر هذا الجمع الغفير أمرا فوق المناقشة والتحليل ، فتعود بنا إلى أفكار شمولية أكل الدهر عليها وشرب ، وإن أُلبسَتْ ثوبا عصريا وادعى أصحابها خلاف الحقيقة التي تسكن وجدانهم .
الذين حاولوا احتكار مقابلة جلالة الملك مع ( بترا ) هم على هذه الشاكلة ، بل هم خير من يمثلها ، أولا لأنهم حاولوا بسط نفوذهم على المقابلة وأخضعوها لتفسير واحد وقراءة أحادية الجانب تدعي القبض على حقيقة مراد الملك من كلماته وإشاراته في المقابلة . وثانيا لأن قصفهم المعسكر الآخر تطور فشمل في منظومته المفهومية رميا بالخيانة والتربص والتشكيك في منجزات الدولة ، واعتبروا محاولة تقييم قرار ما عملا يقدح في نية صاحبه وصدق انتمائه ، بالإضافة إلى كونه - حسبما يرون - مساسا بالإرادة الملكية ، هذه الإرادة التي لم يتناولها أحد من قريب أو بعيد .
وليس غريبا أن يلجأ هؤلاء إلى الاعتصام بالإرادة الملكية في سعيهم للدفاع عن وجهة نظرهم ، فمن عادة التعصب والمتعصبين أن يلجئوا إلى ركن شديد من التابوهات التي ينتهي عندها النقاش بالإكراه ، حتى لو كان في ذلك تحميل للموضوع وجوها لا يحتملها وإقحام لقضايا غير مختلف عليها . غير أن التفسير أحادي الجانب يستمد قوته دائما من التابوهات التي يدعي دفاعه عنها والخاضعة لفهمه هو وحده دون خلق الله أجمعين .
ثمة حالة طفولية هي في حقيقتها تمثل طبيعة تصور المواطن – مسئولا كان أم غير مسئول – لعلاقته بالدولة والحكومة . ففي عالم تغيب فيه المؤسسات الوسيطة ومنظمات المجتمع المدني الفاعلة ، عالم تضع فيه الدولة يدها على كل شيء ويتحول فيه الشعب إلى مجموعة من الموظفين والمتقاعدين الذين يعتمدون في معاشهم على صدر الدولة الحنون الذي إن انقطعت موارده يوما عم الفقر والعوز أفواجا لا تحصى ولا تعد ، في هذا الجو تصبح الدولة أبا وأما ، والمواطن طفلا ، لا هو يمتلك روح المبادرة ولا الدولة تهيئ له المناخ الذي يخرجه من سلبيته وعجزه .
نسعد كثيرا حين نسمع عن توجهات ليبرالية تطرح على الساحة ، وللعلم فان الليبرالية ليست تهمة تقدح في دين المرء وعقيدته ، إن تم استخدامها كتكنولوجيا تنظم علاقة الفرد بالدولة وتشجع روح المبادرة الذاتية ضمن مؤسسات وسيطة وتجمعات تخدم الصالح العام وتدير شؤونه . نقول أننا نسعد بذلك لكننا نتفاجأ أن واقع الحال هو غير المطروح أبدا ، فمل زالت هناك نزعة قوية عند بعض أصحاب القرار لوضع يد الدولة على كل شأن عام ، حتى على الفن والثقافة ، وما اللغط العريض حول مهرجان الأردن ، نتيجة فرض الدولة مظلتها على عدد كبير من المهرجانات التي كانت تنظمها البلديات والمجتمعات المحلية ، هذا التوجه دليل قوي على أن النظرة الشمولية ما زالت تحكم كثيرا من أصحاب القرار ، وأن دعاة التنوير والليبرالية عاجزون عن بلورة مفهومهم وتطبيقه تطبيقا عمليا على أرض الواقع .
بل إن هناك ما هو أعمق من ذلك ، فالحملة الشعواء التي تتعرض لها جماعة الأخوان المسلمين من تشكيك في دستوريتها وموارد رزقها ، هذه الحملة يمكن النظر إليها من هذه الزاوية أيضا . فهي حملة موجهة ضد الجهة الوحيدة غير الحكومية التي تمتلك مؤسسات خدمية وبنوكا ومستشفيات تعمل بشكل مؤسسي منظم ضمن الدستور والقانون الأردنيين وبناء على مبادرات ذاتية وجهد عفوي . والسؤال الذي يطرح نفسه : ما الذي فعلته عشرات الأحزاب والتجمعات الخيرية سوى أنها صدعت رؤوسنا بشعارات الوطنية والانتماء ؟ ما الذي قدمته غير أنها خاضت مراحل طويلة من عمرها تلتف حول رموز وأشخاص تروج لهم ولمنجزاتهم ( التاريخية !! ) في خدمة الوطن والمواطن ؟ وكأن الموظف كبر أم صغر بحاجة إلى أن نقدم له شكرا لا ينتهي على أدائه لواجبه الوطني الذي تفرضه عليه وظيفته الرسمية التي يتقاضى عليها أجرا . هذا كله في ظل غياب أي عمل ايجابي لهذه الأحزاب من أجل مجابهة القضايا العالقة كالبطالة وارتفاع الأسعار .
نقول أن التنوير والليبرالية إن تم تطبيقها فقط على رفع الدعم عن المحروقات واستجلاب الاستثمارات الخارجية التي لا تقدم خيرا إلا لأصحابها ، فان حالة الفصام ستبقى مستشرية ، وسيعم اللافهم والتناقض عقل المواطن وفكره . لا نفهم تنويرا لا يمنح المواطن الفرصة لأن يعبر عن نفسه ايجابيا وينخرط في مؤسسات تساهم في خدمة الصالح العام وتعوِّد الناس على العمل المؤسسي المستقل . جسد الدولة تنخره بطالة مقنعة وأفواج من الخريجين الذين يعتمدون على الدولة في توفير فرصة عمل وراتب شهري وتقاعد مبكر .
إلى متى نبقى شعبا من الموظفين والمتقاعدين ؟ والى متى تبقى الحكومة أما لا تستطيع أن تبلغ بأبنائها مبالغ الرجال ليكابدوا الحياة ويعتمدوا على أنفسهم ؟
samhm111@hotmail.com