حين تمرد ابناؤنا وكسروا "الريموت" .. !!
حسين الرواشدة
28-02-2016 01:34 AM
أشفقت على هؤلاء “السنافر” من طلبتنا وابنائنا الذين صدقوا - مثل غيرهم - ما قيل في الندوات واللقاءات التي امتدت على مدار الاعوام الماضية حول الاصلاح السياسي واهمية الشباب في تعزيز الديمقراطية، وواجب رواد المستقبل في صناعة الغد الوطني، وقلت في نفسي: الحق ليس على الادارات الجامعية التي لم يتورع بعضها عن إشهار رفضه لانخراط الطلبة في العمل السياسي او الحزبي، فيما لم يتردد آخرون عن تقزيم المشاركات الطلابية والعمل الطلابي مهما كان نوعه بحجة الخوف من هيمنة السياسة على العلم، وانما على الحكومات التي ظلت تبشر الناس بالاصلاح السياسي، وانطلقت الى الطلبة تحاورهم وتحرضهم على التعبير عن آرائهم والمشاركة في العمل الوطني وإسماع صوتهم للمجتمع، فإذا ما صدقوا ذلك وبدأوا بممارسته، ثم عوقبوا عليه من المسؤولين عنهم، تركتهم الحكومة يقلعون اشواكهم بأظفارهم، ولم تتدخل في ردع الاجراءات الادارية التي تريد ان تفرض السياج على الجامعة، وتمنع طلبتها من الاقتراب لغير الحقول الاكاديمية على اعتبار ان الجامعة كالمدرسة تماما لا مكان فيها الا لمناقشة ما يريده الاستاذ، فما يراه حسنا فهو -بالضرورة- حسن لدى الجميع.
ومشكلة “السنافر” في جامعاتنا هي جزء من مشكلة الغموض الذي نعاني منه، سواء على صعيد الاصلاح السياسي او التشريعات او غيرها مما يتعلق بأجندتنا وأولوياتنا الوطنية، فلا احد يعرف: ماذا تريد الحكومة من الناس؟ او ماذا تريد لهم؟.. ولا احد يعرف لماذا يطلب من ابنائنا -مثلا- ان يفجروا طاقاتهم الابداعية ويشاركوا في القرارات التي تهم مجتمعهم..؟ ثم اذا ما فعلوا ذلك عوقبوا عليه.
مشكلة حرية التعبير بالنسبة لشبابنا تبدو بسيطة اذا ما نظرنا الى التغيرات التي طرأت على علاقتهم مع المجتمع ومع الدولة ، ففي وقت مضى من زماننا ، كان ابناؤنا يتحركون (بريموت) آبائهم او امهاتهم ومع حكوماتهم ايضا ، يصمتون بإيماءة منهم او اشارة ، كانت العشيرة تلتف حول (عمدتها) وتدين له بالطاعة ، كان (المريدون) في المسجد يتحلقون حول شيخهم ولا يخالفون له أمراً.. كان الطلبة في مدارسهم (يقدّسون) معلمهم ويهربون اذا رأوه يسير في الشارع، كانت السلطة تفرض هيبتها بالقانون على الجميع.
لم تكن هذه السلوكيات آنذاك تخضع لمنطق (الوصاية) ، أو - على الاقل - لم نكن نشعر بأنها كذلك ، وانما كانت تخضع لمنطق القانون والاعراف على اساس الاحترام وربما الطاعة المتوارثة والخوف من (وصمة) المخالفة وما يترتب عليها من عقاب او ردّة فعل اجتماعية أو احساس (بالتمرد) المحفوف بالمخاطر.
مع التحولات التي طرأت على مجتمعنا واصابت قيمه وأخلاقياته ، تغيرت الصورة ، وتحول هذه (الفضائل) الى
(محرمات) اجتماعية ، وأصبحت تعد في دائرة (الوصاية) المرفوضة التي لا تتناسب مع تطورات العصر ووسائل التربية الحديثة ، فالكل تمرد على الكل ، والكل استقل عن الكل ، ولم تعد لاحد (كلمة) على أحد ، واذا ما حصل فلمجرد (الاستماع) فقط ، أما ما بعده فمتروك للاجتهاد والتجربة تحت شعار (ارجوك لا تتدخل في شؤوني الخاصة) او ما شابهه من مقولات ترسخ معنى الاستقلال او الانسلاخ او (التفرد) بالقرارات والاحكام والممارسات ايضاً، واحيانا التمرد على القانون.
من المفارقات ان المجتمع تنازل عن سلطاته هنا، ومنحها - رغماً عنه - للافراد ، وان الافراد - بالتالي - انسلخوا عنه ، وهربوا منه ، فيما عجز المجتمع عن الحصول على هذا الاستقلال ، فأصبح (ضعيفاً) وتابعاً ومقيداً باشارات افراده على اختلافهم ، ومن المفارقات - ايضاً - ان نزع سلطة الوصاية ترافق مع الغاء منطق المشاركة ومع تراجع مفاهيم التعاون والتكافل ، ومع تفكك الدائرة الاصغر وهي دائرة (الاسرة) ومع انحسار قيمة (المقدّس) سواء كان دينياً أو اجتماعياً ، ومع تدني مكانه (الكبير) سواء كان اباً او شيخاً او معلماً او عميد عشيرة مما مهّد الطريق لبروز نخب جديدة ، تؤمن بالفردية وتدين للمنفعة وتفرض (الوصاية) بوسائل عصرية تتناسب مع التغيرات التي اصابت المجتمع ومن ابرزها البحث عن المصلحة دون الاعتبار لاية قيمة.
سقوط (الوصاية) الاجتماعية والسياسية لم يتزامن بالطبع مع ولادة (الفاعلية) الاجتماعية التي يستطيع المجتمع من خلالها ان يطور حركته وكفاءته وحيويته ولم يساهم في تحرير الجيل الجديد من الشعور او - حتى - الوقوع تحت قهر انواع جديدة من (الوصايات) ، ولم يخلق فرصاً تمكنه من استثمار (تمرده) او الاعتماد على ذاته او الخروج من دائرة (الاسيجة) التي رفضها الى دائرة الحريات والعدالة التي يفترض ان يسعى اليها.
ما حدث في الاطار الاجتماعي يصلح ان يكون بروفة لحالات وظواهر اخرى تتكرر على في حقولنا السياسية والاقتصادية والفكرية ايضاً ، وما أصاب العلاقة بين الابناء والابناء ، والمعلمين والتلاميذ، والشيوخ والمريدين ، اصاب ايضاً العلاقات الاخرى التي تربط الناس بالاحزاب والمؤسسات والجامعات وبالدولة ايضا ، وأهم نتائجه - وربما اسبابه - هو تراجع الثقة بين الكل ، وانقطاع الحوار بين الجميع ، وتصاعد وتيرة الصراع حتى داخل الاسرة الواحدة ، وتبدد مفاهيم وقيم المحبة والاخلاص ، وتوسع الفروقات والخلافات داخل المجتمع على حساب الجوامع والمشتركات.
الدستور