اتذكر دائما عبارة بول فاليري الشهيرة التي قالها عندما انتخب عضوا في الاكاديمية الفرنسية، وكان يشير فيها الى العضو الذي رحل وحلّ مكانه، قال اذا كنت ابدو اطول قامة منه الان فلأنه ابي الذي يحملني على كتفيه، ويمشي بي، وبدون هذا الشعور فإن الاجيال تأكل بعضها بدلا من ان تتكامل، والحمار وحده بين الكائنات الذي جسّد ثقافة الصبر والاحتمال وقاد قافلة الجِمال الذي لا يفرق بين امة وسواها.
وقد سادت ظاهرة في التاريخ هي ان الناس يترحمون دائما على الماضي ويسمونه الجميل او العصر الذهبي وان رجاله ونساءه لا يتكررون، قيل هذا قبل خمسة وعشرين قرنا عن فلاسفة الاغريق، وفي العالم العربي قيل هذا عن الجاحظ والمتنبي وابن خلدون وأبي تمام في الأدب وعن سيف الدولة وصلاح الدين في السياسة، لكن الزمن لم يتوقف عند هؤلاء، وذلك بفضلهم لأن قيمة المبدع تكون اعلى عندما يخرج من معطفه او عباءته ابناء يحرسون ميراثه ويذهبون الى ما هو أبعد.
في القرن التاسع عشر وبالتحديد في اواخره ظهر رجال ونساء تنويريون في الوطن العربي، ومنهم من هاجر من الشام الى مصر هربا من التتريك والمشانق، ووجدوا في الكنانة رافعة حضارية وتربة خصبة لابداعهم، وقال الناس يومئذ ان الكواكبي ومحمد عبده والافغاني وأمثالهم لن يتكرروا، وشهد ميلاد رجال ونساء امثال العقاد وطه حسين وسلامة موسى وهدى شعراوي، وكرر الناس العبارة ذاتها وهي ان هؤلاء لن يتكرروا، والحقيقة ان الأرض ولود، وما من ربيع هو آخر ربيع كما انه ما من خريف هو الأخير في تقاويم الارض.
لكن ما يتغير هو البيئة السياسية والمناخ الثقافي والوعي الاجتماعي، فهناك من هم محظوظون مقابل آخرين اقلّ حظا، لأن هناك ازمنة تشتد فيها الارادة وشهوة المغامرة، مقابل ازمنة يسود فيها الخمول والاستنقاع .
واذا كنا نشكو في هذه الاونة الرمادية من ندرة الكبار فذلك لأن الصغار اصبحوا بلا نسب، واول شيء يجربون فيه مناقيرهم اللينة هو اكتاف آبائهم.
نعم، من يشعر كما قال فاليري ان قامته اطول من قامة ابيه فذلك لأنه يحمله على كتفيه!
الدستور