ثمة من يتخذ الفلسفة طريقاً الى الحقيقة, ثم الى محاسن الاخلاق, وثمة من يتشدق بها نشداناً للغلبة في الجدال ويعرضها – كما يقول النوشجاني الفيلسوف – في اسواق الجهال «وينادي عليها بين السفهاء والانذال».
ومن كان هذا شأنه فهو – كما يقول النوشجاني ايضاً–«قد انغمس في بحر الشقاء, وسقط في مهوى البلاء والفساد, ولا يرُجى لدائه برءٌ, ولا لعلته شفاء, ولا لصرعته انتعاش, ولا لأسره فكاك».
والنوشجاني فيلسوف مسلم ورد ذكره في «الامتاع والمؤانسة» للتوحيدي, كما نقل التوحيدي كثيراً من ارائه في «المقابسات» ولا سيما المقابسة السادسة بعد المائة. وهو ممن يرون النظر سبيلاً الى العمل وهادياً الى رشده وسداده. ومن يقرأ المقابسة المشار اليها آنفاً يرى الى النوشجاني وقد اجتمع اليه نفر من عشاق الفلسفة يسألونه عن «العقل» و»الروح» و»السعادة» و»الفلسفة» و»العالم» و»الانسان», و»الشريعة» و»الحق» و»الموجود», فيجيبهم ببيان شاف في ذلك كله. ويؤكد لهم أن شأن الفلسفة عظيم ومطلوبها عزيز, وأن عليهم أن يطلبوا السعادة بتطهير الاخلاق واصلاح السيرة, «مع الاشفاق على تضييع الزمان, وتصرّم ايام العمر, وتقطّع انفاس الحياة» دون أن يبلغ الجوهر الانساني فيهم مطلوباته العالية.
ولقد كان النوشجاني, كما نفهم من هذه المقابسة, واحداً من كبار معلمي الفلسفة في القرن الرابع الهجري. حتى إن «أبا الخير اليهودي» يخاطبه قائلا (كما ورد في تضاعيف المقابسة): «أنت بحر الله في الخلق تقذفه بالجواهر, وشجرة العقل في العالم تخرج ضروب الثمر في كل حين».
وفي الحق أن للتوحيدي يداً بيضاء على كل مشتغل بتاريخ الفكر العربي الاسلامي. كما أن لأحمد أمين محقق «الامتاع والمؤانسة» الفضل نفسه, فقد استطعنا من خلالهما ومن خلال كتب التراجم المعروفة التي تم تحقيقها معرفة رجال عظماء من نمط ابي الوفاء المهندس البوزجاني وابن زرعة المتفلسف ومسكون النوشجاني موضوع حديثنا هذا, وأبي القاسم المنطقي السحسباني وابي الحسن والعامري وابي سعيد السيرافي, وأعلام آخرين ممن نفح فيهم الاسلام روح البحث وقوة النظر, أو ممن هيأت لهم حضارة الاسلام – وأن كانوا غير مسلمين – مناخ التفكير الحر, على نحو ما نجد في مئات كتب الحكمة (الفلسفة) وكتب علم الكلام, وكتب أصول الفقه. وكتب مقارنة الاديان, وكتب السياسة والامامة وغير ذلك كثير.
إن ثمة ملايين من المخطوطات العربية الاسلامية لم تحقق بعد, ولا اظن أن تحقيقها ممكن من قريب فاذا كنا لا نعدم مئات منها في مثل مستوى «الامتاع والمؤانسة» للتوحيدي, و»الذريعة الى مكارم الشريعة» للراغب الاصفهاني, و»الاعلام بمناقب الاسلام» لأبي الحسن العامري, و»الكافية في الجدل» للجويني, و»ابكار الافكار» للآمدي, فإن من المؤكد أن ثمة قارة مفقودة ينبغي لنا البحث عنها واستخراج كنوزها وذخائرها.
على أن مرادنا من هذا الحديث هو بيان أن الفلسفة مرتقى صعب على من لا يأخذ أمرها بقوة ومن لا يباشرها مكتمل الاداة متكامل الاخلاق, وذلك هو حسبنا الساعة, والحديث لا ريب ذو شجون.
الرأي