رحل محمد حسنين هيكل عن عمر ناهز 92 عاماً كان مليئاً بالإنتاج والعطاء الفكري والصحافي والسياسي، وترك للمكتبة العربية والعالمية قرابة 40 كتاباً ومؤلفاً أرّخ فيها تاريخ مصر الحديث، كما أرّخ فيها أيضا الحرب والسلام بين العرب وإسرائيل، إضافة إلى ظواهر عالمية وأحداث إقليمية أخرى كالثورة الإيرانية وصعود التنين الصيني وغيرها، وطوال هذه المسيرة الطويلة كان هيكل رجلاً إشكالياً، اختلفت فيه وعليه الآراء وكلها كانت تجمع على "عبقريته الفنية"، أما تصنيفه الأخلاقي والسياسي والفكري، كان ومازال وسيبقى مثاراً للجدل، فقد اعتبره البعض رجلاً قومياً، واعتبره البعض الآخر انتهازياً بامتياز، ووصفه البعض بأنه مجرد "كاتب محاضر" التصق بسياسيين عظماء وكبار وسرق منهم بعض بريقهم وشهرتهم.
قد يكون هيكل كل ذلك لكنه نجح وحقق لنفسه حضوراً رفعه إلى درجة النجومية، ومع ذلك فإن هذا الواقع لهيكل الذي توفته المنية قبل أيام لا يمنعني ولا يمنع غيري من دراسة هذه الحالة وإن على عجل في مقال في هذا المقام.
من أبرز المسائل التي يجب التوقف عندها في شخصية وعلاقات هيكل ما يلي:
أولاً: الانتهازية السياسية وهي جريمة أخلاقية ومهنية، فالرجل انتقل من ولاء كامل للملك فاروق في بداية حياته العملية والصحافية، إلى عدو للعهد الملكي والانضمام بالفكر والتحريض لصالح انقلاب "الضباط الأحرار" التي طاردتهم شبهات التنسيق مع المخابرات الأمريكية في ذاك الوقت، وأصبح من أقرب الناس لجمال عبد الناصر "أبو أكبر الهزائم" التي مازلنا ندفع ثمنها إلى اللحظة، أقصد حرب عام 1967 وضياع الضفة الغربية وغزة والقدس والجولان.
ثانياً: السادات كان عبقرياً في اكتشاف الانتهازيين وتعامل مع هيكل على أنه مجرد رجل يعشق ذاته ولا علاقة له بالتحديات الوطنية التي تواجه مصر سواء أكانت داخلية أم خارجية، أما محمد حسني مبارك فقد تعمقت لديه تلك القناعة بعد اغتيال السادات وبعد ذلك وجد هيكل نفسه بعيداً جداً عن مواقع القرار الرسمي وهو ما أدخله في حالة "ضياع" سياسي أفقده البوصلة والاتجاه، وبذكائه وجد هيكل ومبكراً في ظاهرة "الثورة الإيرانية" والخميني ضالته وشهوانيته للضوء والبروز والبقاء في المشهد، فركب ظاهرة الخميني وثورته "المبرمجة" وكتب كتابه الشهير الذي ساهم في ترويج الخميني والخمينية في الوطن العربي أنه كتاب "مدافع آية الله - قصة إيران والثورة".
ثالثاً: في حقبة مبارك جرى تحول مهم في حياة هيكل، وكان أساس هذا التحول إبعاد مبارك له تماماً عن التقرب من المؤسسات السيادية التي كان يسألها وتجيبه بصفته صانع الرؤساء والملوك، وهنا وجدنا هيكل يبحث عن دور مشاغب، وبانتهازيته المعروفة وجد أن ما يعاند المنظومة العربية الممثلة وقتذاك بدول الخليج العربي العراق والأردن واليمن والمغرب، سوف يحقق له حضوراً مالياً واعتبارياً، ويبدو أنه خلال تلك العقود الماضية كان "هيكل" يعمل مع إيران وهي مفاجأة بالنسبة للكثيرين، ومن مظاهر تلك المفاجأة ما يلي:
• قيام إيران الرسمية بنعي هيكل واعتباره قامة هامة وتوصيفه بالمفكر العربي الكبير، هو سلوك شاذ لإيران لم نعتد عليه في وصف من نفتقدهم سواء أكانوا شعراء أو مفكرين ومنهم على سبيل المثال نزار قباني ومحمود درويش، ومحمد مهدي الجواهري، ونجيب محفوظ وادوارد سعيد والعلامة العراقي الدكتور علي الوردي والدكتور الفيلسوف فؤاد زكريا الذي وبخ هيكل في كتابه الشهير "كم عمر الغضب: هيكل وأزمة العقل العربي. الكويت 1983" الذي نشر في جريدة الوطن الكويتية رداً على كتب هيكل "سنوات الغضب"، ولكن إيران اليوم ومعها حزبها التابع حزب الله قاما بهذا الواجب لهذا الرجل بالذات لأنه قدم على ما يبدو لهم الكثير من الخدمات الجليلة.
ما السر؟
هيكل القومي الذي كان ناصرياً يعلن وقبل وفاته بأشهر قليلة ثيل إنه يؤيد ما تمارسه مليشيات حزب الله في سوريا ويعتبره دفاعاً عن النفس ويهاجم السعودية والعهد الجديد فيها، وفي المقابل يُمجد إيران ويعتبرها دولة حضارية وقوية وفقاً لمقابلته مع صحيفة السفير في الحادي والعشرين من تموز الماضي.
أما الأمر الأخطر فهي تلك المعلومات التي تتحدث عن أن أولاده لديهم استثمارات في إيران العراق تقدر بمليارات الدولارات وبرعاية مباشرة من خامنئي، وأن ابنه حسن الذي كان ممنوعاً من دخول مصر لارتكابه قضايا فساد ومعه أخوه أحمد لديهما استثمارات بالمليارات في العراق وإيران وفي دول افريقية لصالح إيران وهو أمر بكل تأكيد قد غلب المزاج الخاص بـ "الأستاذ" وحرفه عن الموضوعية التي كان يدعيها وخاصة في مقابلته الشهيرة والمثيرة للجدل في صحيفة السفيرة المقربة من حزب الله وإيران، والتي انتقد فيها بحدية القرار السعودي بالتدخل في اليمن، والتي برر فيها تدخل حزب الله في سوريا واعتبره دفاعاً عن النفس!
في قراءتي لهذا الرجل أجد الخلاصة التالية
لقد حرك هيكل ثلاثة عوامل:
أولاً: النرجسية والشعور الطاغي بالبحث عن النجومية.
ثانياً: الدفاع عن قامات سياسية يريد الارتباط بها وبحضورها، وفي المقابل كان يكره من هم أكثر اطلاعاً منه وثقافة وحنكة سياسية مثل الراحل الكبير الحسين بن طلال ومن حقده وكراهيته على الحسين رحمه الله تجنى عليه وعمل على تشويه صورته في كتابه "كلام في السياسة"، والذي لم يجرؤ على نشره إلا بعد وفاة الحسين.
ثالثاً: المال، فقد كان هيكل عاشقاً للمال بطريقة منفرة وبدرجة أكبر بكثير من النجومية، حيث كان يسأل قبل أي لقاء أو كتابة أي مقال عن المبلغ وضرورة استيفائه سلفاً، ويقال إنه كان بخيلاً لا يحب صرف المال.
جمع هيكل ثروة مالية تقدر بثمانية مليارات دولار أمريكي، والسؤال هل يمكن لصحافي مهما كان أو مفكراً مهما كان أن يجمع مثل هذا الرقم؟
عن 24.ae