الاستاذ ورجاء بعدم الازعاج
عمر كلاب
19-02-2016 02:06 AM
لا يحتاج الأستاذ أكثر من الراحة في نهاية رحلة الحياة، فقد عاش صخبها وتقلباتها بما لم يعشه صحفي قط ، وربما اوصى هو الاطباء بعدم ايقاظه بعد قرابة القرن من الصحو الصاخب ، لذا من الادب ان نتركه يستريح بعد نهاية الرحلة وان نكتب على قبره الرجاء عدم الازعاج ، لا من شيوخ المهنة الذين يستشعرون براحة شغور مقعد ظل على الدوام عصيّا عليهم ولا من شباب كانوا يرونه حلما او من صغار يبحثون عن شهرة بالاساءة اليه ، فهو حاضر حتى في الوفاة وسيبقى حاضرا بكتبه وتحليلاته ورؤيته التي اخطأت حينا واصابت احايين لكنه ظل قابضا على جمرة الوعي وعدم تأجير عقله لغير وعيه.
هيكل ليس زعما ، كما هي الذاكرة والوعي عن الهيكل المربوط بهيكل سليمان المزعوم ، فهو حالة وعي بنكهة ناصرية ، اضاف الى التجربة وحظي بنجاحاتها ودفع ثمن خساراتها حقدا وشماتة وحبسا ونفيا ، قبل قرارات العزل ولم يقبل تحديد الوجهة القادمة الا من خلال بوصلته وعقله ، وقصة عزله من رئاسة تحرير الاهرام في عهد السادات مشهورة ، فهو قبل العزل ورفض ان يكون مستشارا للرئيس ، لان الرئيس يملك قرار تنحيته ولا يملك تحديد وجهته القادمة كما قال للسادات ، ينطبق على هيكل ما ينطبق على الراحل عرفات ، فكليهما مات ولم يوقّع ، عرفات رفظ التوقيع على التفريط بالقدس وهيكل رفض التوقيع لغير الناصرية وتجربتها وإن كان موقفه من الصهيونية سيبقى وسام شرف له ولمن يحافظ على نهجه ومنهجه.
الاستاذ حيثما ترد الكلمة يرد هيكل ولا احد غيره، تعاطى مع كل رجال السياسة من نهرو حتى كينيدي ولكن صورة جمال عبد الناصر بقيت اداة القياس التي يقيس فيها الرؤساء، غامر في التحليل لكنه لم يتجرأ على الحقيقة وإن لوى عنقها احيانا لخدمة وعيه وتجربته ، قسى على الجميع ، فقد ظلت مرارة فشل التجربة الناصرية في الانتصار على الكيان الصهيوني والكيانات الرجعية تحت لسانه دوما ، وتحولت المرارة علقما وهو يرى ابناء الناصرية ينقلبون عليها ويرفعون علم الكيان على برج عروبي بنته الناصرية كدليل على العداء لامريكا والكيان، في لحظة تيه على حواف الصحراء في بطن الحافر رأى الاستاذ الخطأ في احتلال الكويت لكنه اخطأ في الاصطفاف ، فكوى بلدان الملح بحموضة في العقل حين غادر هواء الغاز المُتطاير دفاعا عن الدولة السورية.
هيكل، اذا كان ثمة وصف له للتقريب لجيل جديد فهو تاريخ على هيئة رجل وتأريخ يمشي على قدمين ، مزج مهارة الحكواتي مع صرامة الاكاديمي وعذوبة الشاعر في نص واحد، فكان لحرفه بصمة ولكلمته جين خاص بها ولجملته شيفرة وراثية منسوبة اليه وحده ، صادم وتصادم ، غاب وحضر ، ابتعد واقترب ، مارس كل شقاوات المبدع وشقائه رغم انه مولود في الثراء ومن الثراء في كل شيء من المال الى الثقافة الى اللغة ، ورحل كذلك مليئا بالثراء ومكتنزا بالمعرفة التي لم يبخل بها على احد فنثرها على هيئة كُتب ، ستبقى مراجع لكل راغب في المعرفة وباحثا عن دقائق الاحداث ، هيكل الى رحمة الله واسف على الازعاج ، فقد طرقت باب موتك رغم الطلب بأن نضع على شاهد قبرك الرجاء عدم الازعاج .
الدستور