يلتمس «الرزق» عند ازدحام الاقدام ولا يلتمس «العقل» هناك بحال. والتفكّر قد يقوم به أهله مثنى وفرادى, لكن الجموع لا تقوم به.
هذا ما يخلص اليه المرء بعد التجارب المتتابعة في حضور الندوات والمؤتمرات واللقاءات والاحتفالات وما شئت مناسبات يزدحم الناس فيها.
والجمهور هو الجمهور, سواء أكان جمهور عامة ام جمهور حملة شهادات والقاب. وإن مما فهمناه من كتاب «غوستاف لوبون»: «سيكولوجيا الجماهير» أن وعي الجمهور غير معنيّ بمطالب العقول قدر عنايته بمطالب الغرائز والعواطف الجياشة. وأن الاعداد الغفيرة غالباً ما تردد ما يضعه لها افراد قلائل اذكياء من شعارات. فما ثمة وعي قد تعزز بوعي, وما ثم اطروحة قد ظاهرتها اطروحة. ولكن عقائر تتصادى واصوات تهدر, وقلّما تجد أحداً يملك أن يحتكم الى منطق أو يميل الى رويّة على نحو ما يقول ابو العلاء المعريّ:
تثاءب عمرو اذ تثاءب خالد
بعدوى, فما اعدتني الثوباء
فالعدوى في الجموع اسرع من النار في الهشيم, والجموع أنواع. وأشدّها مدعاة للرثاء تلك التي تتم باسم الثقافة والفكر والفلسفة. أو باسم الاوطان والاديان وحقوق الانسان, وهذا ما يدفع بعضهم الى النجاة بألبابهم وموازينهم أن تُخسرها الجموع, أو أن تكون اداة مسخّرة مسوقة في مآربها واهوائها..
إن ثمة فارقاً نوعياً يفترضه بعضهم بين معترك الأقدام ومعترك الأفهام. ولكن هذا الفارق معدوم في الجموع قلّما نتبيّنه, ولعل للازدحام قوانينه الخاصة (أو فوضاه) التي تجعل العقول في ذهول, وتقفها عند أدنى درجاتها وتُبطِلُ لها أدواتها..
يقول المعري في رثاء والده:
فيا ليت شعري هل يخفّ وقاره
اذا أحد يوم القيامة كالعهن
وهل يرد الحوض الرويّ مبادراً
مع الناس, أم يأبى الزحام فيستأني
وعلى عظم الفارق بين الزحام على حوض رويّ وبين الزحام على مستنقعات وبيئة, أو سراب خادع.. فإن ثاني الزحامين هو ما ينبغي ان نخلص منه نجيّاً, وأن نجعله وراءنا ظهرياً.
الرأي