جنيف (3): إما السلام أو الحرب
د.حسام العتوم
16-02-2016 11:37 AM
فلاينت ليفريت الباحث والمحلل المعروف في مركز سابان لسياسة الشرق الأوسط في معهد بروكينغز وفي مجلس الأمن القومي وفي الخارجية الأمريكية وفي وكالة الاستخبارات المركزية ذكر في كتابه (وراثة سورية – اختبار بشار بالنار، ص33): (..... وفي النهاية لم يكن بمقدور أي من الإدارات سواء كانت ديمقراطية أو جمهورية أن تتهرب من الحقيقة المنطقية التي يتعذر تغييرها أو تجنبها لما قاله هنري كيسنجر من أنه لا يمكن للعرب القيام بحرب دون مصر ولا أن يصنعوا السلام دون سورية)، انتهى الاقتباس. وتعليقاً على ما جاء به ليفريت أعلاه نلاحظ كيف أن القضية السورية التي تجاوزت حقبة احتلال إسرائيل لجولانها عام 1967 وأبقتها تراوح مكانها أصبحت تتقدم كل قضايا العرب بعد انهيار ربيعهم الذي طارد الفساد في تونس أولاً، واستشرى بنفس الاتجاه وسط العرب محارباً الظلم والديكتاتورية أيضاً ثم انحرف عن مساره صوب الإرهاب الأسود المدمر للحضارة والقاتل للبشرية بعد ركوبه موجة الاستعمار والاحتلال والتدخل الخارجي دافعاً خلفها أكبر وأهم قضايا العرب العادلة أولا وهي الفلسطينية المحتاجة لحلول ناجعة تعترف بحق العودة والتعويض وبناء الدولة المتماسكة وعاصمتها القدس الشرقية مع إخلاء المستوطنات من ساكنيها شتات اليهود وعدم المساس بعرب فلسطين التاريخية لعام 1948، ورحّلت قضايا العراق وليبيا واليمن إلى القادم من أنفاق المستقبل المقلقة، ومؤتمر (جنيف 3) وتأجيل أوراقه إلى (25) الجاري من شهر شباط خير شاهد.
وفي موقع آخر من كتاب (وراثة سورية) هذا (ص150) قول للرئيس الأسد عام 2001 عند تسلمه الحكم في دمشق بعد وفاة والده وبطريقة ملكوية ملاحظة أي (ملكية جمهورية) يكون رئيس الجمهورية فيها ملكاً ويستطيع أن يسلم العرش من بعده لابنه حافظ مثلاً عبر صناديق الاقتراع، حيث قال: (ليس من الممكن البدء بأي تطوير سياسي في سورية إلا من خلال المكانة التاريخية لهذا البلد، لقد ذكرت في خطاب توليتي أننا لم نأتِ لنسف الواقع وإنما لتطويره، وكلمة تطوير تعني أن تبني على أساس شيء ما وتتحرك منه إلى الأمام وليس في الفراغ)، وهنا بطبيعة الحال والكلام لي فلقد تمكن الأسد الابن على مستوى السياسة الخارجية مبكراً من التمسك بخيار المقاومة رافضاً أية شروط من الجانب الإسرائيلي لإعادة هضبة الجولان المحتلة بهذا الاتجاه واستخدم الورقة التركية السرية وساند حزب الله وحماس وفتح خطوطاً وقنوات سياسية وعسكرتارية مع روسيا وإيران والصين وكورية الشمالية وغيرهم من الدول كبيرة الحجم والوزن الدولي، وحافظ على اقتصاد مستقر لبلاده من دون ديون خارجية حتى مشارف 2011 عندما اندلعت شرارة الربيع السورية في مدينة (درعا) ومن ثم في سوق الحميدية وسط دمشق حيث تم تقديم الحلول الأمنية على السياسية من قبل نظامه وبموافقته فاستشرى العنف مكان الاستقرار وانكمش الاقتصاد بنسبة وصلت حينها إلى (20%) في وقت بلغت فيه الصادرات السورية عام 2010 حوالي (10/5/2010) مليار دولار، وتراجعت بالتدريج علاقات سورية الخارجية مع دول جوارها العربية منها والعجمية خاصة بعد توجيه تهمة تطاول نظام دمشق على شعبة واستشراء الفساد المتجذر أصلاً في تاريخ الدولة وتدخله في شؤون غير الخاصة في لبنان، وتهديده لأمن دور الجوار تم على أثرها بجهد روسي – أمريكي مشترك وتحت مظلة الأمم المتحدة سحب سلاحه الكيماوي الخطير.
ثم بدأت فصائل المعارضة للنظام بالظهور على شكل خلايا نائمة ومتحركة وطورت أعمالها من السياسة إلى العسكرة بدعم مباشر من دول عربية معروفة ومن أخرى أجنبية أكثر شهرة، ومن ثم دخلت صنوف الإرهاب الشرس الأسود إلى داخل جسم الدولة السورية من أكثر من بوابة حدودية جغرافية وتحت مسميات عديدة، وتراجع للقوة العسكرية لسلطة دمشق وتمركزها في العاصمة وترك ساحة المحافظات تحديداً ملعباً وملجأ للإرهاب.
ورايموند هينبوش في كتابه (سورية ثورة من فوق، ص31) كتب قائلاً في نسخته الأولى عام 2011: (إن الآمال في أن بشار قد يحرر النظام السياسي، بعد أن بدا أنه يشجع مبدئياً (ربيع دمشق) خابت حين اتخذ النظام إجراءات صارمة ضد المعارضة السياسية السريعة النمو والخط الذي يسير عليه بشار الآن هو أنه لا يمكن استيراد الديمقراطية الغربية تماماً، وهي تبدو غير ناضجة ما دام الشعب يعاني الفقر وقلة التعليم، علاوة على ذلك، صحيح أن التغير السياسي سيحدث في النهاية، لكن ينبغي بناؤه على التحديث الاجتماعي والاقتصادي بدلاً من أن يسبقهما، وذلك خشية تزعزع الاستقرار، كما حدث معد غورباتشوف، ويمكن فهم مشروع بشار على أنه (عصرنة الاستبدادية) أي تحسين عمل النظام بحيث يمكنه البقاء والاستمرار وتوليد التنمية الاقتصادية اللازمة لضمان قاعدة النظام الاقتصادية)، انتهى الاقتباس. وهنا يمكننا القول أيضاً بأن بحث وعمل الدولة السورية من أجل الوصول اقتصادياً إلى مرحلة الاكتفاء الذاتي من دون التعاون مع دول العالم كان مستحيلاً ولذلك اقتربت سورية من إيران أولاً ومن ثم من روسيا، وبأن التشدد السوري في التمسك بخيار الأمن لضبط الداخل خاصة في بدايات ربيعهم قلب الطاولة على دمشق سياسياً، وكون أن الجيش السوري كان الأكثر تسليحاً وسط العرب ووصل لدرجة امتلاك السلاح الكيماوي غير التقليدي الخطير (والذي تم سحبه بجهد دولي منظم) لم ينعكس إيجاباً على حماية الحدود السورية الواسعة جغرافياً من الإرهاب الذي نخر الداخل مستغلاً وجود الفساد وتدني الرواتب وانتشار الرعب من سطوة أمن النظام، وقابل هذه المعادلة ترهل حرفية الجندي السوري وضعف معنوياته العسكرية أمام حرب الشوارع والعصابات فاستند إلى خبرة إيران وحزب الله ومن ثم روسيا أخيراً.
وعلى مستوى دول الجوار السوري لم تستطع دمشق أن تقدم الكثير لفلسطين رغم شعار المقاومة ومظلة (أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة) سوى استضافة اللاجئين وقيادة حماس ثم التخلص منها مبكراً، ولا زال لبنان يعيش هاجس إرث الماضي السوري الثقيل فيه والعلاقة الجيوبولوتيكية الوشيجة بين حزب الله ونظام دمشق، وتركيا لم تعد تنسجم مع سوريا الرسمية بسبب تطاولها على شعبها ومعارضتها حسب زعمها وواصلت مهاجمة روسيا إعلامياً كونها المساند الواضح لسورية عسكرياً وبواسطة الفضاء وعيون أنقرة على ورقة المكوّن الكردي الطامح لحكم ذاتي رغم تشكيله لفصيل معارض وسط المجتمع السوري وتجارة نفطية بين عصابات داعش الإرهابية وأنقرة يكشفه الفضاء الروسي وفرنسا وإسرائيل وتؤكده دمشق، وإسرائيل تواصل البحث عن أمنها وسط غبار الأزمة السورية الدموية فتقصف دمشق عدة مرات وتغتال أحد أبرز زعماء المقاومة اللبنانية سمير قنطار وتنسيق عسكري فضائي ولوجستي دقيق بين بل أبيب وموسكو لمنع الاحتدام في الفضاء عسكرياً وغيرها، وأردنياً يحق لنا أن نعتز بمواقف دولتنا وبلدنا الغالي مع أشقائنا السوريين في عمق التاريخ المعاصر وفي وقتنا هذا والأيام شاهده عيان فشكلت مشاركة قواتنا المسلحة الأردنية الباسلة في حرب السادس من تشرين الأول عام 1973 وساماً على صدر الأردنيين والعرب، ويذكر بأن اللواء المدرع/40 يتقدمه الجنرال خالد هجهوج المجالي وتحت إشراف مباشر من راحلنا العظيم جلالة المغفور له الملك حسين طيب الله ثراه هو الذي تحرك باتجاه الجبهة السورية دفاعاً عن كرامة العرب وبهدف تحقيق النصر المؤكد وجاءت النتيجة بتحرير مدينة (القنيطرة) الجولانية.
وفي المحافل الدولية قاد سيدنا جلالة الملك عبدالله الثاني حراك السلام تجاه الأزمة السورية الدموية المجاورة لنا منذ اندلاعها بنجاح ملحوظ ما زال جلالته ينشد الحلول السلمية ويقدمها على العسكرية مع تحديد هدف استئصال الإرهاب أولاً، وهنا يحضرني قول لجلالته أثناء لقائه الرئيس الألماني يواخيم غاوك في برلين، 13 مايو/أيار/2015 أوضح بأن الحل السياسي الشامل للأزمة هذه هو السبيل الوحيد لإنهاء معاناة الشعب السوري. وفي مؤتمر المانحين بلندن ركز جلالته على إنصاف الأردن والاستثمار وتحفيز النمو ليعتمد اللاجئ على ذاته، ويذكر بأن الأردن حصل على مجموعة مليارات دولارية على شكل مساعدات (3,400 مليار + 5,5 تسهيلات موزعة على سنوات قادمة).
ومؤتمر (جنيف 3) اخيراً الذي تم ترحيله وأوراقه إلى (25) شباط الجاري عبر مؤتمر (ميونخ/11) منه كان محكوماً عليه بالتعثر مسبقاً بسبب فجوة الخلاف بين النظام السوري المتمسك بورقة الحوار مع المعارضة الوطنية ورفض التفاوض معها ذات الوقت وهو ما يؤكده الممثل الدائم لدمشق في الأمم المتحدة السيد بشار الجعفري والمستشارة الإعلامية والسياسية للقصر الجمهوري السوري السيدة بثينة شعبان وبين السيد رياض حجاب رئيس الهيئة العليا للمفاوضات المنبثقة عن (قائمة الرياض المعارضة)، الذي اكد في مؤتمر صحفي عقده في لندن 10/شباط/2016 على ضرورة تنحي الأسد ونظامه وعلى رفع الحصار عن المناطق المحاصرة وإطلاق سراح المعتقلين لتخفيف معاناة الشعب السوري، وشخصياً أؤكد القول هنا بأن مستقبل الدولة والوطن السوري وفق أعمال النظام الحالي لدمشق مرهون بالتفاوض مع المعارضة الوطنية وجيشها الحر وبإشراكهم بصناعة القرار السياسي والاقتصادي كذلك، وبالتوحد معهم لطرد كافة صنوف الإرهاب التي أبرزها عصابات (داعش) و(النصرة) و(جيش الإسلام) و(أحرار الشام) و(القاعدة) بهدف تحقيق الاستقرار الدائم للوطن السوري الواسع الذي كان يتفاخر بالاستقرار الأمني فيه عبر عمق الزمن الفائت.
والمساعدة الروسية العسكرية الفضائية لدمشق عبر الطلعات الجوية المتكررة وإطلاق الصواريخ من بحر قزوين ومن تحت مياه المتوسط أو من خلال نشر الخبراء على الأرض أو بتحسين القدرات العسكرية السورية ليست احتلالاً ولا استعماراً واستهدفت الإرهاب مباشرة ولم تقصد استهداف المدنيين السوريين المسالمين أو المعارضة السورية وجيشها الحر كما يشاع إعلامياً بكل أسف، وهذا الأمر غير وارد أصلاً في العقلية السياسية الروسية عند الرئيس بوتين أو وزير خارجيته لافروف أو عند خطابات أي من المساعدين لهم مثل بوغدانوف وبيسكوف ومن لديه دليل قاطع يستطيع أن يظهر للرأي العام العالمي دون تردد، ويقابل هذه المعادلة مراقبة حثيثة روسية لفسيفساء الشرق الأوسط برمته ابتداءً من أفغانستان ومروراً بالعراق وتونس وليبيا واليمن والسعودية وحتى إيران، ومتابعة دقيقة من قبلهم للإرهاب الذي غزاهم في عمق ديارهم غير مرة وتمكن اخيراً من تجنيد الآلاف وسط صفوفهم عبر الانترنت، وتمكنوا في نهاية المطاف من السيطرة على خلاياه في الداخل ومن إغلاق مواقعه الإلكترونية وبدرجة كبيرة ومن ملاحقة عصاباته في سورية الممثلة بداعش وغيرها.
والآن بعد التقارب الروسي الأمريكي الملاحظ في الشأن السياسي السوري وهو المطلوب لإيجاد مخارج ناجعة فيه ولأهم قضايا العالم في إطار الشرعية الدولية يخرج علينا الإعلام مجدداً بحراك جديد سعودي إماراتي لخوض حرب برية عنوانها عصابات داعش والنصرة الإرهابيين ولمساندة الشعب السوري ومعارضته وجيشه الحر وبالتعاون مع امريكا ودول (الناتو) لكن مضمونه يبقى تحت علامة استفهام كبيرة لنظام الأسد ولحزب الله وحتى لروسيا حليف دمشق الإستراتيجي وخطة السعودية (ب) خير دليل وهي التي تتردد على لسان وزير خارجيتها الجبير في كل محفل دولي رغم العلاقة الاقتصادية الكبيرة بين موسكو والرياض في المجال النووي السلمي حيث سيتم بناء (16) مفاعلاً نووياً بالتعاون مع روسيا لأغراض الطاقة وتحلية المياه بحكم أن البترول غير مضمون بقاؤه بعد ربع قرن قادم إلى الأمام، وفي الختام ليس مهماً فقط جمع المال للاجئي سورية وإنما الأهم توزيع مخرجاتهم الديمغرافية على العرب إن أمكن ذلك، ولا وقف للقتال في سورية يمكن تصوره من دون سحق الإرهاب أولاً وأخيراً.
الراي