"مزهر حجازين" .. وردةٌ كركيّـةٌ لا تذبل
هيا منير كلداني
15-02-2016 12:04 PM
كانتِ السّاعةُ تشيرُ إلى الرّابعةِ صباحاً بتوقيتِ أستراليا عندما تلقّيتُ رسالةً إلكترونية كنتُ أنتظرُها بفارغِ الصّبر، رسالة تحملُ موافقةَ عائلةِ البطلةِ (مزهر) لأن أتحدثَ عن هذا الجُرحِ النّازفِ منذُ أكثر من عقدين. فتوجّهتُ فورًا إلى مكتبي وأكملتُ القصة..
لم تأتِ كلماتي بسهولةٍ، فقد عاوَدْتُ كتابتها مراراً وفي كلّ مرّةٍ كانتْ دموعي تَغلبُني لأنّ خيالي انطلقَ ليعيشَ قصّةً حقيقيّةً وبقيَ عالقاً في شتاءِ عمانَ، وفي تلك الفتاةِ العشرينيّة النشميّة.
المكان: عمان- أبو نصير
السنة: شباط ١٩٩٢
البطلة: مزهر عودة حجازين..
في أحدِ أيّام شتاءِ عمانَ القارسِ، كانتِ الفتاةُ المزيونة/ مزهر عودة الحجازين متواجدةً في سكنِها المشتَركِ معَ زميلاتٍ لها في منطقةِ أبو نصير، فقد انتقلتْ- بسببِ طبيعةِ عملِها كممرّضةٍ في مستشفى البشير- من قريتِها/ السماكية- محافظة كرك الأبطال إلى عمّان.
لا شكّ أن كثيرين من الأردنيين ما زالوا يتذكّرونَ شتاءَ ١٩٩٢، فقد كان موسماً استثنائيّاً بكلِّ المقاييس، شتاء منحَ ذلك العامَ اسمَ "سنة السبع ثلجات".
وفي ظلّ حالةِ شبهِ الشّللِ الذي ضربَ مفاصلَ الحياةِ في معظمِ مناطقِ الممكلة، كانتْ مزهر في بيتِها حين سمِعتْ ضجيجاً مفاجئاً وصُراخاً من البيتِ المجاور. (فزّت) مزهر على الفورِ من مكانِها في بيتِها الدافئِ وتوجّهتْ إلى مصدرِ الصّراخ. ومع كلِّ خُطوةٍ أخذَتْها بهلعٍ، ازدادَ يقينُها أنّهم أطفالٌ يستغيثون من ألسِـنةِ نيرانٍ بدتْ كوحشٍ لا يُختَرق.
أدركتْ مزهر أنّ الأطفالَ على بُعدِ دقائقَ وربّما ثوانٍ من الموتِ المُحقّق.. الدفاعُ المدنيّ لم يصلْ بعدُ، الأصواتُ والصرخاتُ تتعالى، الدخانُ يملأ الدنيا، والقلوبُ بلغتِ الحناجرَ مع امتلاءِ الفضاءِ في بُكاءِ وصراخِ الأطفالِ بأنْ يهطلَ المطرُ الآنَ وهنا ليطفئ هذه المأساةَ..
لم تسمعْ مزهر- تلك الكركيّةُ الأبيّة- سوى بقايا أنفاسٍ تستجدي الحياة.
يا إلهي! كيف لهذه النيرانِ أن تأتي على كلِّ شيء بهذه السرعةِ المتوحّشة؟ كيف لهذا الأبيضِ الجميلِ أن يغدوَ نيراناً وأن يصبحَ ضبابُهُ النديّ دخاناً؟ وفي خضمِّ ذلك كلّه، لم تأبهْ مزهر لِهَوْل المنظرِ. هي لا تعرف هذا البيتَ ولا من فيه. ما سمِعَتْه فقط هو صراخُ الأطفالِ وصوتُ ضميرِها، فركضتْ نحو النيرانِ ثمّ غابتْ وسطَ الدّخان. ازداد المشهدُ حيرةً ووجعاً مع اختفائها ولكنّها طلّتْ بعدَ دقائقَ وبيدِها أحدُ الأطفال. لم يَثنِها ألَمُها ولا أنفاسُها المتقطّعة ولا تعبُها عن معاودةِ غزوِ النيران لإنقاذ الطّفلِ الثاني.
وبكل بسالة، أخرجَتْه ثمّ عاودتِ الكرَّة مرّةً ثالثة لترى من بقي في الداخل، لكنّ النيرانَ ازدادتْ ضراوةً والدخانَ كثافةً، فَضَلّتْ طريقَها إلى الباب وأغمِي عليها بعد أن نالَ منها الدخانُ الأسوَدُ اللعين. وعندما وصلَ رجالُ الّدفاعِ المدنيّ، أخرجوا مزهر ولكن بعدَ أن افترستِ النيرانُ والدخانُ جسدَها.
نجا الأطفالُ من موتٍ محتّمٍ لكنّ المزيونة البطلة/ مزهر عودة حجازين لفظتْ أنفاسَها الأخيرةَ في ١٥ شباط ١٩٩٢- بعدَ قرابةِ شهرٍ من الحادثةِ متأثّرةً بحروقِها الخطيرة.
وفي مشهدٍ أعلنَ الشتاءُ حدادَهُ فيه وانتحبَ كثيراً كثيراً، ودّعتْ مزهر أحباءَها تاركةً وراءَها دموعَ حزنٍ لكلّ من عرفَها وسمعَ بها، ودموعَ فخرٍ لهم ولنا.
مزهر حجازين، أيّتها اليافعةُ البطلة، أيّتها النشميّةُ النديّة، لروحكِ الجميلةِ السلام.. يا كرك وَيَا سماكية ويا أردن، احضنوا ابنتَكم فخراً ووَدّعوها مرّةً أخرى بالأكاليلِ والزغاريدِ وبفستانِ عرسٍ أبيض.
عذراً يا حبيبتي، فليس لدينا في الحنين يدٌ، وستبقين يا مزهر الغائبةَ الحاضرةَ في ذاكرتِنا جميعاً تُزهِرينَ فينا أملاً ووفاءً وتفانياً وحبّاً معَ كل شباط.
شكراً مزهر عودة حجازين منّي أنا ابنة مادبا ومن كلّ أردنيّ، وشكراً لكلّ بطلٍ غادرنا تاركاً الأردن أمانةً في أعناقِنا، وشكراً لأبطالٍ آخرين يعيشونَ بيننا الآنَ وبدون ألقاب. فلنبحثْ جميعَنا عنهم ولنعطِهم ما يستحقّونه من تقديرٍ حتى نصبحَ أجمل.
* شكر خاص لعائلة الشهيدة مزهر عودة حجازين التي منحتني شرف الحديث بموافقتهم على نشر هذه القصة، وللأستاذ/ هاشم الزيادات العبادي الذي أخبرني مصادفة ذات يوم عن هذه البطلة الأردنية، وللأستاذ/ نبيل الغيشان والدكتور/ حنا فخري طوال اللّذَين سهّلا عليّ كثيرا الحصول على المعلومات ذات الصِّلة.