وضع الملك عبدالله الثاني مساء الثلاثاء مفاصل الدولة أمام مسؤولياتها, إذ قرر التصدي شخصيا لثقافة طارئة باتت تتغلغل في المشهد الداخلي; عنوانها الأكبر: الشك, النميمة, الاحباط, العجز واغتيال الشخوص ما ضعضغ ثقة الناس بوطنهم وشوّه صورة المملكة في الخارج.لجأ الملك الشاب إلى أسلوب خطابي غير معهود لطي ما تحول إلى صفحة سوداء باتت تهدد بتقويض مسيرة طويلة وشاقة لبناء مستقبل أفضل للأردن, بحسب مطلّين على تطورات ربع الساعة الاخيرة, عشية خطاب تحديد وجهة ووتيرة التحديث الذي اختطها منذ ان تسلم سلطاته الدستورية عام .1999
اختار الملك التحدث الى الغالبية الساحقة من الأردنيين المهتمين بالشأن العام من دون أن تكون لهم انحيازات سياسية أو عقائدية, ما سهل عليه شرح رؤياه للأردن الذي يستحقه الجميع حاكما ومحكوما.
اختار التواصل مباشرة مع شعبه من خلال مقابلة مع مدير عام وكالة الانباء الرسمية (بترا) بعد أن أخفق إعلام الدولة وعجز غالبية المسؤولين في إيصال رسائل التحديث.أجاب على سبعة عشر سؤالا عكست بمجملها مرارته الشخصية من تدني مستوى السجال الدائر بين النخب السياسية والاقتصادية حيال نهج الإصلاحات الاقتصادية والتحديث, الذي ما زال يواجه تشكيكا ونقدا منذ انطلاقه قبل عقدين.
فالمعركة السياسية والاعلامية التي استعرت منذ شهور مع تنامي انغلاق أفق تسوية الملف الفلسطيني-الاسرائيلي وتراجع المستوى المعيشي لغالبية السكان على وقع أزمة أسعار النفط والغذاء الكونية وبدء الحديث عن خيارات بيع أصول واراض في الدولة لسد العجز في الموازنة- في ضوء شح المساعدات العربية والاجنبية, باتت تمس مستقبل الأردن. كذلك تنذر بتآكل الكثير من الانجازات التي تحققت بالرغم من ان الطريق امامنا ما زال طويلا لتعميم ثمار النمو الاقتصادي.
لذا, قرر الملك القاء ثقله الشخصي خلف سياسات الدولة التي يديرها من خلال السلطات الثلاث, والإجابة على من وماذا ولماذا وكيف ومتى واين فيما يتعلق بعناوين السياسات الداخلية مثار الجدل والاشاعات.
تحدّث بلغة الارقام والحقائق لحسم القضايا الخلافية. وفي الخلفية تنام مذهل في فجوة الثقة بين الدولة والمواطن, بدءا بمشاريع بيع \"هضبة\" دابوق وما حولها, مرورا بصفقة ميناء العقبة وانتهاء بمهرجان الأردن.
شدد أيضا على ضرورة اتباع الطرق القانونية في عمليات البيع والالتزام بالشفافية ودراسة العروض وتقدير جدواها وموجباتها. وأقر بوجود خلل في الاستراتيجية الاعلامية فيما يتعلق بشرح قرارات الدولة, التي أوضح ان عمادها يظل المصلحة العامة.
واكد ان اولوياته هي حماية الدستور والتأكد بأن السلطات الثلاث تلتزم به حرفيا. كما تحدث عن فوائد استقطاب الاستثمار الخارجي, خاصة الخليجي, وسط فورة نفطية قد لا تتكرر في زمن تتسابق فيه الولايات المتحدة وأوروبا والعالم العربي لفتح اسواقها والاستحواذ على جزء من كعكة الأموال التي تولد فرصا وتساعد على استدامة التنمية الاجتماعية والاقتصادية. وتحدث بإسهاب عن تحديات الفقر والبطالة و\"الأسعار, الأسعار ثم الأسعار\" التي يحاول احتواءها.
الملك قرّر وضع النقاط على الحروف أمام رجل الشارع والحكومة ومجلس الأمّة والصحافة والقضاء لشحذ الهمم, بحسب التفسير الرسمي الذي أعقب الخطاب. استمع لأكبر قدر من الاصوات الشبابية والشعبية والسياسية قبل ان يقرر ما هو الافضل لشعبه ولمملكته? خلال الاسابيع الماضية تساءل الملك عن اصرار النخب الاردنية, واصحاب المواقف العقائدية والايديولوجية التي لا توفر البدائل المقنعة او العملية على رؤية الكأس نصف الفارغة والاستمرار في جلد الذات وتبادل الطخطخة? لماذا تصر قوى محدودة ذات أصوات مرتفعة على ان تغمض عيونها عن أي تحسن ملموس بينما يشعر الملك عبد الله, كحال سكان المناطق التي يزورها من أقصى الشمال ألى أقصى الجنوب ببدايات نتائج تحققت خلال السنوات الماضية تستهدف تحسين المستوى المعيشي والخدمي للسكان, وتوفير فرص عمل, واستقطاب استثمارات تضمن استدامة النمو? لماذا الاصرار على تحويل الأردن لبلد معزول منغلق على نفسه يخشى الانفتاح والتلاقي مع الحضارات الأخرى? لماذا التغاضي عن لغة الارقام التي تتحدث منذ خمس سنوات عن قصة نجاح اقتصادي اردني يراها العرب والغرب قاطبة بينما يصر البعض على تشويهها وتصوير الأردن على أنه بلد الفساد والنهب والفوضى والنميمة والتطبيع مع إسرائيل? هل تستحق دولة شحيحة الموارد الطبيعية لكنها غنية بمخزون بشري ساهم في بناء دول مجاورة وغربية, ومحسوده على أمنها واستقرارها واعتدالها, وعلى كل ما حققته من انجازات في القطاعات الصحية والتعليمية والخدمية, كل هذا النكران من ابنائها?
هذا بعض ما دار في ذهن الملك لشهور وأيام خلت قبل ان يطلق الطلقة الحاسمة على امل استعادة الثقة بواقع ومستقبل الأردن.
ما زال الخطاب الملكي مثار بحث وتمحيص وجدل في الاوساط الشعبية والحزبية والسياسية والاعلامية, بين من يقول انه جاء متأخرا وبين من يلوم مسؤولين اختبأوا خلف الملك واقحموه بأدق التفاصيل التنفيذية بدلا من القيام بمهامهم او مساعدته على التفرغ للتفكير في تحديات داخلية وخارجية قادمة, ورسم سياسات مناسبة لها تنفذ من خلال الهياكل القائمة.
بالطبع, لا دخان من دون نار. والحق ليس كله على الطليان. الجميع شارك في ايصال البلاد الى هذه الحالة المؤسفة, ولم يترك المجال أمام الملك الا ان يتدخل شخصيا لحسم الجدل مع ما يعنيه ذلك من مخاطر سيما وأنه يحاول وباستمرار أن يكون ملك جميع الاردنيين.
هناك خلل في العجلة التنفيذية والتشريعية والقضائية والاعلامية بات بحاجة ماسة الى التصويب. الجميع ينتظر المزيد من الخطوات لمحاربة أي مفسد. وربما آن الأوان لتحويل قضية احباط تأسيس كازينو في البحر الميت في دولة يجرم فيها القانون المقامرة, إلى المدعي العام. وآن الآوان أيضا تعميق مفاهيم الحاكمية الرشيدة ودولة المواطنة والمساواة في الحقوق المدنية وفي تطبيق القانون على الجميع. أغلب مكونات المجتمع ما زالت تبحث عن نماذج قيادية تصلح لأن تكون قدوة لها.
من الآن فصاعدا, سيراقب الناس مدى التزام المسؤولين بالوعود الملكية, أو الخطوط الحمراء التي وضعها الملك, خاصة لجهة تعزيز مبدأ الولاية العامة للحكومة وتسريع عملية التداخل بين مسننات عجلة الدولة حتى لا يستمر الإرباك. الجميع بانتظار شفافية أكثر في طرح العطاءات القادمة وفي اطلاع الناس على مبررات اي خطوات اشكالية قد تضطر الدولة أن تأخذها لاستقطاب رؤوس الاموال وضمان أمنها الاجتماعي والاقتصادي. فالجميع ذاق مرارة غياب الشفافية التي تغذّي أجواء الإشاعات وتضع الصح والخطأ على قدم المساواة. لا بد للسلطة التشريعية والقضائية والاعلام ان يقوموا بادوارهم. ولا بد من وقف عملية تهرب الرسميين من تحمل مسؤوليات وتبعات قرارات متسرعة أو غير شعبية قد يضطرون لاتخاذها. اذا لم يعجبهم الوضع فليستقيلوا?.
الأهم توقف الانتهازية السياسية التي يمارسها بعض المسؤولين الحاليين ممن احتل مواقع رسمية خلال العشرين عاما الماضية. إذ يمعنون في تسريب الاشاعات وبث روح التشاؤم داخل الغرف المغلقة, لكن امام كاميرات التلفزيون وفي الاجتماعات العامة يبدون أكثر كاثوليكية من البابا ويمارسون تحريضا غير مقبول ويصرون على القاء اللوم على الاعلام \"غير المسؤول\".
فالاعلام مرآة للواقع. وغالبية الصحافيين مهنيون ليس من هواياتهم نسج الروايات واختلاق الاكاذيب التي تمس سمعتهم, او رأس مالهم. لا بد من الاتفاق ان التعددية والتباين في الآراء ضرورة لتعزيز مسيرة البلد ولا بد من سماع الرأي الآخر المدعوم بالحقائق.
فمن المستبعد أن يحيد الملك عن نهج التحديث. والدولة ستستمر في السير صوب الانفتاح الاقتصادي مع محاولة تحقيق أكبر قدر من العدالة الاجتماعية والتعامل مع القطاع الخاص على انه محرك اساس لاستدامة التنمية الشاملة. ويجب ان يظل حق المعارضة البناءة في الرد مكفول, دون تخوين او تشكيك.
العرب اليوم.