محمد ابورمان : الإعلام مرة أخرى؛ دفاعاً عن الحرية المسؤولة
06-07-2008 03:00 AM
رغم ثراء مضامين مقابلة الملك التاريخية مع وكالة الأنباء (بترا)، برز اتجاه مأزوم من السياسيين والإعلاميين يريد حشر المقابلة في زاوية معينة وتحميلها حمولات تخرج تماماً عن أهدافها، وتوظيفها لصالح فئة ضد أخرى، مع أنّ القاعدة المعروفة البدهية في الأردن أنّ "الملك مظلة للجميع" من مختلف التيارات والتوجهات. تحريف المقابلة الملكية عن مضمونها وغاياتها برز بوضوح من خلال نخبة من السياسيين المعروفين بمواقفهم الحادة من الحرية الإعلامية المسؤولة، والذين يجاهرون بتحميل الإعلام كلفة أخطائهم السياسية وعقلياتهم العرفية، فسارعوا إلى المطالبة بضبط الإعلام وتحجيمه ولجم الأصوات الحرة المستقلة.
الأغرب من ذلك أن تجد أقلاماً صحافية سارعت بدورها إلى تبني هذه الرؤية المأزومة وممارسة "جلد الذات" وتخوين الإعلام، بل واتهام زملائهم، في محاولة لتبرير سياسات تحريرية تبتعد عن مسؤولية الصحافة المهنية والأخلاقية.
مقابلة الملك كالشمس لا تغطى بغربال، والنقد الموجه في المقابلة هو بالضرورة ليس للإعلام الحر المهني المسؤول، حتى وإن كان ذا طابع معارض لبعض السياسات والمواقف السياسية، وقد أعلن الملك مراراً وتكراراً أنّ "الحرية الإعلامية سقفها السماء".
فالصحف اليومية بأسرها، وبعض المواقع الالكترونية لم تخرج عموماً عن الخط الوطني الملتزم المهني، بل مارس الإعلام رقابة متميزة على الحكومة والعديد من السياسات وقدم أداءً مشهوداً ومارس حرية مسؤولة وأصبح رقماً صعباً في المعادلات السياسية الداخلية.
تمثل الصحف اليومية حالة متقدمة في المشهد الإعلامي العربي، وهي بشهادة العديد من الإعلاميين العرب المرموقين تمنح الأردن وقيادته مذاقاً خاصاً ورونقاً، وتشكل أحد مصادر القوة الناعمة للدولة في الخارج.
النموذج الصحافي الأردني يقع بين مدرستين متناقضين؛ الأولى الصحافة المرعوبة والمكبوتة، في العديد من الدول العربية، حيث لا تزيد الصحافة عن كونها صدى للسلطة وسياساتها، لا تتقن غير فن المدح والتطبيل والتزمير. وهذه الصحافة لا تحظى بأي درجة من الاحترام والمصداقية لدى مواطنيها ومسؤوليها على السواء، وتشكل ثقباً أسود في سياسات تلك الدول.
في المقابل؛ هنالك نموذج صحافي في دول أخرى منفلت من عقاله، يمارس ألواناً من الشتم والاغتيال السياسي مغرق في التشاؤم والسوداوية، وفي تصفية الحسابات الشخصية والسياسية، وربما هو أداة من أدوات الطائفية وتفكيك المجتمع والدولة.
أمّا في الأردن؛ فإنّ الحالة الصحافية تتوزع بين ألوان سياسية وفكرية مختلفة، وتكاد تقرأ لمختلف ألوان الطيف الأيديولوجي من اليمين إلى اليسار، وتقرأ تعليقات في غاية الجرأة من القرّاء. وأصبحت الصحف الرئيسة معروفة بتقاليدها وسياساتها التحريرية. ومع كل هذا الانفتاح والارتفاع في منسوب الحرية إلاّ أنّ تقاليد المهنة نادراً ما تخرق.
القاعدة واضحة للجميع في الصحافة؛ الملك خطّ أحمر، الدستور خط أحمر، المؤسسة العسكرية خطّ احمر، المصلحة الوطنية خطّ أحمر، ما عدا ذلك من مسؤولين وسياسات وأفكار وسلطات كلها في دائرة النقد، غير محصّنة، من حق الإعلامي أن يمارس حريته ومسؤوليته المهنية والأخلاقية ضمن التقاليد الإعلامية الأردنية المعروفة.
إذن؛ أين الخلل الذي أشار إليه حديث الملك؟ وما هو مكمن الداء الذي يجب أن نضع أصابعنا عليه؟..
الخلل بتقديري في جانبين رئيسين: الأول إعلامي والثاني رسمي.
الجانب الأول، الإعلامي، يتحمل مسؤوليته جزء من الإعلام الطارئ أو بعض الأقلام التي بالغت في مستوى النقد حدود التجريح، في بعض صحف الخارج.
والأخطر من ذلك بعض الأقلام الطارئة التي أتاحت لها بعض المواقع الالكترونية حرية لا هي بالمسؤولة ولا المقبولة، ولا تعكس بأي حال من الأحوال التقاليد الإعلامية الأردنية. فهل يمكن قبول أن يكتب كاتب مغمور من الخارج، في موقع الكتروني، مهدداً كاتبا أو صحافياً معروفاً بأنّ الناس ستسحله في الشوارع وتقطع جسده إرباً إرباً!
هل يفهم هذا الكاتب وأمثاله أنّ هذه ليست لغة الخطاب في الأردن، لا بين الإعلاميين ولا بين المسؤولين، إنّما هي لغة تصلح لدول ومجتمعات أخرى تعودت فيها بعض الفئات على هذا المنطق في ممارساتها وخطابها!
ليس غريباً أن تصدر الأصوات الإعلامية الشاذة من كتاب يعيشون خارج الوطن، وليسوا محسوبين أصلاً على الإعلاميين الأردنيين. فمن يعرف الأردن يدرك تماماً انك تجد في لقاءات الملك وكبار المسؤولين الكتاب والصحافيين الكبار، من كافة الألوان والاتجاهات، وفي مقدمتها الأقلام الحرة الجريئة التي هي بالتأكيد محل وتقدير الملك شخصياً، حظيت بإشادة ملكية في أكثر من موضع.
ثمة مواقع إعلامية محترمة مقدّرة، ظهرت في البداية وأحدثت اختراقاً في سقف الحرية الإعلامية وقدمت مادة إعلامية متميزة، وخلقت سجالاً رفيعاً، ودفعت بالصحف إلى تطوير مواقعها الالكترونية لمجاراتها في الخبر والسقف والمعلومة ومستوى التحليل. لكن بدأت بعد ذلك تظهر بعض المواقع الالكترونية المسيئة التي عكست سياسات الصحف الصفراء وأساليبها المبتذلة بالابتزاز واستباحة المحرمات والاعتداء على حرمات الناس وخصوصياتهم.
الجانب الآخر من مسؤولية "الخلل الإعلامي" هو من السياسيين والمسؤولين، وهو الجانب الأكبر من الخلل؛ فعندما تغيب المعلومة تعشش الشائعات والأقاويل والمغالطات، والفراغ لا يملأ بتسريبات متناقضة هنا وهناك، إنّما بتطبيق حق الحصول على المعلومة للجميع.
في لقاء سابق مع رئيس الوزراء حول واقع الإعلام؛ ذكرنا أنّ الخلل معروف وجوانب الإصلاح واضحة؛ فالإعلام الخاص، ليس مطلوباً تقييده أو تحجيمه، إنما المطلوب مسألتان رئيستان؛ الأولى سقف عالٍ من الحرية المضبوطة بالقانون، والثانية حق الحصول على المعلومة، بدلاً من منطق التسريبات، والاحتكار للمعلومات.
أمّا إعلام الدولة، كالتلفزيون والإذاعة ووكالة الأنباء( بترا)؛ فالمطلوب توفير سقوف من الحرية، وتحديث وظيفة رئيس تحرير، ووضع طاقات إعلامية مبدعة مستقلة، تُسأل عن المُنتج والسياسات، وليس عن الموضوعات الفردية. والمطلوب أن يتم عرض ألوان السياسة جميعها، لاستقطاب المشاهد الأردني، بدلاً من انصرافه والمسؤولين إلى فضائيات عربية أخرى.
والمطلوب كذلك، ليس عودة وزارة الإعلام، إنّما إيجاد مطبخ إعلامي رسمي محترف يصنع الرواية والقصة الحكومية، ويمسك بالمعلومات الصحيحة، ويواجه الشائعات والتزوير، ولا يعاني من أزمة تعدد المرجعيات.
الإعلام الأردني تطور بصورة متسارعة، ومن الطبيعي أن تحدث فوضى إعلامية هنا وهناك، وأن نشهد مواضع من الخلل والأزمة، لكن هذا لا يعني أن نعمم الأحكام ونظلم إعلامنا وصحفنا، بخاصة التي قدمت دوراً متميزاً في الرقابة الإعلامية.
أمّا الذين يريدون تبرير أخطائهم وتقاعسهم، أو تصفية حسابات شخصية أو سياسية، فعليهم ألا يصطادوا بالماء العكر، وأن يبحثوا عن مجالات أخرى، لكن ليس في مقابلة الملك، فهو من كرّس ورسّخ هذا السقف المرتفع من الحرية الإعلامية في خطابه وسياساته.
m.aburumman@alghad.jo
الغد