لا تصدّقوا عربيّاً إذا زعم أنه يحب الدجاج "المسحّب" خارج نطاق المائدة، بدليل أنهم يطلقون هذا الوصف على أي مسؤول غير مستبدّ، يقوده سوء طالعه إلى تسلّم منصب في بلادهم، وهو الوصف الذي ألصق ذات يوم برئيس وزراء أردني ليبراليّ متنوّر، يؤمن بالحوار والحرية والديمقراطية، ويمقت العنف والاستبداد، وكانت لديه طموحات كبيرة بترسيخ فكرة حكومة الأغلبية البرلمانية والحزبية، وأعني به طاهر المصري.
كان المصري دمثاً، خلوقاً، ناعم القول والفعل، تخرّج في جامعات أجنبية، وقد حاول "سحب" أفكاره وتوجهاته على الحياة السياسية الأردنية، وربما، من هنا، وصفه السياسيون والحزبيون الأشاوس بـ"الدجاجة المسحّبة".
وفي النتيجة، أصبح هذا الرئيس موضع سخرية كثير من الأطياف السياسية الأردنية، وفي مقدمتها الأحزاب نفسها، بيسارها ويمينها، وهي التي دافع عنها، وأراد لها أن تأخذ فرصتها، بعد عقود طويلة من التهميش والتحقير. ولأنه رجل يمقت المماحكات الطفولية، ويترفّع عن صغائر أنصاف السياسيين وضغائنهم، لم يصمد طويلاً في منصبه، وآثر الانسحاب من الحياة السياسية برمتها، وفي حلقه غصةٌ لم تفارقه من هذه التجربة المرّة حتى اليوم.
شخصيّاً، استوقفتني تجربة المصري، طويلاً، وكثيراً ما تساءلت عن حجم حصة الشعوب العربية في صناعة طغاتها.
أتساءل، وفي ذهني نماذج عديدة من طغاة العرب الذين صنعتهم شعوبهم، ونفخت فيهم من روحها المثقلة بعصور طويلة من الاستبداد والاستعباد، إلى حد بات أكثر ما تخشاه أن تجد نفسها خارج الأقفاص والحظائر.
وفي المقابل، أشفق أحياناً على طغاة العرب الذين يجدون أنفسهم مضطرين إلى الانسجام مع شروط الشعوب في القمع والكبت والاستبداد، حتى لا تلصق بهم صفة "الدجاج المسحّب"، بما يعني ذلك من سقوط من أعين شعوبهم التي لا يستهويها غير الزعيم الذي يحمل سوطاً، وينظر إليهم من طرف عينه.
والأنكى من ذلك، هو التباس مفهوم "البطل" في الذهنية العربية، فالبطل عند العرب هو الطاغية، والعكس صحيح أيضاً. وعلى هذا الأساس، لا يمكن لزعيم سلميّ، على غرار المهاتما غاندي، أن يكون بطلاً في الرؤية العربية، على الرغم من أن غاندي يعد، في المخيال العالمي، أنموذجاً لا يُضارَع للبطولة في مقارعة الاستعمار.
وعلى الأساس نفسه، لا يوصف رجل يميط الأذى عن الطريق، ويتحاشى أن يؤذي أهل الحيّ، بأنه "بطل" في نظر أهل الأحياء العربية، بل ربما يحظى بلقب رجل "صالح" أو "غلبان"، أو "مسكين"، لا يصلح لأكثر من الشكر، على أبعد تقدير. أما أن يعيّن "مختاراً" أو وجيهاً للحيّ، فذلك خارج أعراف الحيّ والمجتمع العربيين وقوانينهما، لأن هذا الرجل من فئة "الدجاج المسحّب" كذلك. وأما من يستحق "المخترة" و"الوجاهة" فهو "البطل" الحقيقي، صاحب البأس، والصوت المرتفع، وربما "المشكلجي"، والذي يعرف من أين تؤكل الكتف، والوصولي، وذو الألف وجه، والمقرّب من النظام الحاكم ومؤسساته، وصاحب "الواسطات" الكثيرة، إلى غير ذلك من المواصفات التي تدل على أن عظامه لم تزل في مكانها، لم "يسحبها" علمٌ أو ثقافة، أو رغبة حقيقية بالتحديث والتطوير.
على هذا الغرار، سُحبت البطولة من سوار الذهب، في السودان، ومُنحت للبساطير العسكرية. وعلى هذا المنوال أيضاً، ألقي رئيس مصري منتخب في السجون، لأنه من فئة "الدجاج المسحّب"، أيضاً، وجيء بطاغيةٍ يسبقه السوط ومدفع الدبابة، ليعتلي سدة الحكم فوق الأشلاء والجثث التي حاولت التفريق بين "البطل" و"الطاغية"، فدفعت حياتها ثمناً لهذا الفصل القاتل.
ربما كنت متشائماً، غير أنني أشعر أن كل محاولاتنا للتحرّر محض أوهام، ما دمنا حتى اليوم نصنع الطغاة ونبجّلهم، ونسبغ عليهم مواصفات البطولة، وقد يمر زمن طويل قبل أن ندرك أننا، نحن الشعب العربي، من نستحق أن نوصف بـ"الشعب المُسحّب".