«الربيع العربي» بعجره وبجره حرك المياه العربية الراكدة وأدى إلى الإطاحة بكثير من الأفكار والقوى والهياكل، وربما كانت الضحية الكبرى على مذبح الربيع العربي هو ما يطلق عليه «الإسلام السياسي» رغم التحفظات على إطلاق هذا المصطلح، لأنه لا يوجد إسلام سياسي وإسلام غير سياسي وإسلام معتدل وإسلام غير معتدل، فالإسلام هو الإسلام، إسلام واحد بقرآن واحد وسنة واحدة، ولكن هناك تجارب إسلامية مختلفة، وأفهام مختلفة، تختلف بحسب الزمان والمكان، وحسب الأشخاص والناس والثقافات.
على كل حال المقصود هنا الإطاحة بفكرة إنشاء جماعات وأحزاب سياسية إسلامية تتبنى العمل السياسي من أجل المنافسة على السلطة أو المشاركة فيها، من خلال تشكيل قناعات شعبية وجماهيرية وأتباع ومؤيدين يحملون برامجهم وأفكارهم إلى منصة الحكم، فهذه الفكرة أو الطريقة بالعمل السياسي أصبحت تلفظ أنفاسها، وهي في طريقها إلى الأفول، وقبل أن يسارع بعض المتصيدين والمتعجلين بالحكم كالعادة، أكرر المقصود بعبارة واضحة أن الأفول ليس للإسلام، بل الإسلام دين وعقيدة وحضارة وثقافة وتراث كبير وعميق وباقٍ ومستمر وممتد، ولكن ما أقصده على وجه التحديد هو ذلك الأسلوب في العمل السياسي المسمّى «إسلام سياسي» على وجه التحديد والتخصيص.
عوامل أفول ما يطلق عليه «الإسلام السياسي» يعود إلى عدة أسباب :
السبب الأول والأهم يتمثل بأن الجماعات السياسية الإسلامية وعلى رأسها «جماعة الإخوان المسلمين» نشأت في سياق مشروع إحيائي عظيم، وتدشين مشروع نهضوي للأمة كلها، بمعنى أنها أرادت إعادة بناء ثقة الأمة العربية والإسلامية بذاتها وهويتها وتراثها الحضاري في وجه الغزو الاستعماري، والغزو الفكري الخارجي، وأعتقد أنها أدت دورها في هذا المجال، واستنفذت أغراضها، ولكن خلف من بعد حسن البنا خلف حولوا مشروع الجماعة إلى مشروع حزب سياسي يصارع على السلطة، وهذا مخالف لما أراده حسن البنا، ومناقض لجوهر مشروعه الأصلي، فالإمام حسن البنا أراد للأمة كلها أن تعيد بناء مشروعها الحضاري بشكل جمعي شامل.
السبب الثاني الذي سارع في انهيار ما يطلق عليه الإسلام السياسي، صعود تيار منغلق إلى سدة القيادة في الجماعة، غير قادر على استيعاب رفقاء الدرب من الذين أسهموا معهم وقبلهم في بناء الجماعة وتأسيسها، مما أدى بشكل حتمي إلى عجز هؤلاء عن استيعاب المجتمع واستيعاب المخالفين لهم في الدين والفكر والمذهب فيما لو وصلوا إلى السلطة.
السبب الثالث يتمثل بقدرة النخبة السياسية العربية على القيام بثورة مضادة على نتائج « الربيع العربي» ونجاحها في إفشال تجربة « الإسلام السياسي» قبل أن تبدأ، بعد أن استطاعوا حشد كل خصوم السلاميين في جوقة واحدة بالتعاون مع قوى عالمية وإقليمية عاتية.
الآن ليس أمام شباب الحركات الإسلامية إلّا الذهاب إلى فكرة الإطار الوطني الواسع، والانخراط في المشاريع الوطنية على مستوى الأقطار، والعمل على استكمال عوامل النجاح في انضاج صيغ تشاركية توافقية برامجية، وليس أمام كل من ينتسب إلى الفكر الإسلامي عامة، وفكر الحركات الإسلامية، إلّا التخلي تماماً عن فكرة الحزب الديني وفكرة الدولة الدينية، والذهاب إلى فكرة الأحزاب البرامجية ذات المرجعية الوطنية، التي تستند إلى البرامج التفصيلية القادرة على حل مشاكل المجتمع، والاستناد إلى الانجازات الحقيقية في الميدان والواقع، على كل أصعدة الحياة ومجالاتها، وأن يعمدوا إلى اختيار الكفاءات وأصحاب التخصصات التي تتميز بقوتها وأمانتها، بغض النظر عن الانتماءات الدينية والمذهبية والميول الفكرية والحزبية.
ما ينطبق على الإسلام السياسي، ينطبق على الاتجاهات القومية واليسارية أيضاً، فقد أصبحت من التجارب التاريخية السابقة التي استنفذت أغراضها أيضاً، وعلى الجميع أن ينظر إلى الأمام في محاولة البحث عن صيغ جديدة من العمل السياسي، وثقافة جديدة في العمل الحزبي، بلا تردد أو إدامة النظر إلى الخلف.
تجمع الناس على البرامج هو الحل، والديمقراطية الحقيقية هي التي تكون على خيارات عملية برامجية، بعيداً عن الانتخاب المحسوم سلفاً لأبناء القبيلة، أو لأبناء الطائفة أو لأتباع المذهب أو الدين، فهذا أمر لا يمت إلى الديمقراطية بصلة، ويتناقض مع عدالة الإسلام في إرساء معايير الاختيار القائمة على القوة والأمانة، وحسن الإدارة.
الدستور