تأخذنا الأيام في دوامة الحياة وكأننا أوراق شجر تتطاير في عين عواصف الخريف، نركض في هذه الدنيا بلا وعي ولا إدراك بأن لنا ساعة نسقط على وجوهنا بلا حراك، لنتحول من أحياء الى أموات، من أشخاص نتجمّل ونتأنق ونجادل ونكافح وننافح ونثرثر بل ونقاتل، الى مجرد جثث بلا حراك، لا نتنفس ولا نتبسم في وجوه الناس، وتتيبس أيدينا وأرجلنا، فلا نصافح ولا نربت على أكتاف الضعفاء ولا نمد أيدينا الى جيوبنا لنخرج حق الله والمحتاجين علينا بأقل مما نملك، ولا تمشي حينها أرجلنا الى بيوت الله وبيوت أرحامنا وأهلنا وأصدقائنا ، بل لا يستطيع البعض منا أن يقوم بعادة سيئة اعتاد عليها، فقد مات ابن آدم.
خلال شهر واحد فقدنا الوالد والشقيق رحمة الله عليهما، وهذا أمر الله سبحانه له الحمد والمنّة، وإن كان من درس يصفعنا على الوجوه، فهي تلك الغيبوبة التي نعيشها جميعا، إلا من رحم الله بيننا، غيبوبة الأحياء الذين يسعون نحو حلم العيش وحسب، يظنون أنهم يمتلكون أمر انفسهم حين تملّكوا أمرّ أهليهم أو بعض الناس أو أمر الرعية، ثم يأيتهم أمر الله في لحظة لا يدرون متى وأين، فيتحولون الى مجرد جثث لا تنطق ولا تتحرك، فهي كالتماثيل لا تنفع ولا تضرّ، ومع هذا تستمر حياتنا بعدهم ولا نعتبر، والجميع يتمنى لو يبتلع الدنيا وما عليها وهو يعلم أنه سيموت ولا يستطيع أن يبتلع ريقه.
إن من أكبر عيوبنا التي برزت في الآونة الأخيرة هي المظاهر الاحتفالية والتفاخر حتى في الموتى ومناسبات الوفاة، ولعل أبشعها تأخير دفن الميت الى اليوم الثاني لينتشر الخبر ويتهافت الناس على المقابر والجميع يعلم أن كرامة الميت دفنه فورا، وكأن من بين أولئك البشر من يستطيع منح شفاعة للميت في قبره، حتى أصبح الموت بالنسبة للبعض أشبه بحفل زواج للأسف، ومع هذا فنحن لا نعتبر من وقوفنا على أرض المقبرة، أو النظر الى الأب والأخ والصديق والقريب وهو يحمل على الأكتاف ثم يدلىّ الى حفرة طولها متران وعرضها متر ونصف، إنها « زنزانة الموتى» التي لا يحسب السائل والمسؤول فينا حسابا لها.
في هذا المقام لا تأخذني الشجون والحزن على مصابنا بقدر ما تأخذني الأفكار عما يحدث لنا في بلدنا وبلاد العرب التي أصابها طاعون الحروب الأهلية فلم يسلم منه فقير ولا أمير ولا صالح ولا طالح، فلننظر الى أحوالنا كيف تبدلت و أخلاقنا كيف تخلفت، وأنفسنا كيف تحولت، الجميع يسعى الى الشهرة والكل يريد أن يصبح مسؤولا وصاحب منصب وجاه، وهذا بداية التزاحم الذي يقتل التراحم، ثم التقاتل، حتى إذا ما وقعت الفتنة وقعت الحرب، وإن وقعت الحرب فلا تسأل عن الحال فإنه شر المآل، ولنا عبرة في من حولنا من بلدان العرب، تشردوا وماتوا وهُدّمت بيوتهم ومصالحهم، وسوادهم الأعظم لا يدري لما قتل أو لما يقاتل حقا. مناسبات الموت كانت أكبر العِبرّ للناس العقلاء، ليدركوا أن الدنيا فانية لا تستحق أن يغضب منك أخ أو صديق أو رفيق أو جار من أجل فتاتها الفاني ، ولكن اليوم أصبح الموت شيئا أقل من عادي، فترى الناس يضحكون ويتسامرون ويتفاخرون بالموائد التي لا يأكلها الفقراء والمحتاجون حقا، ونبخل على أسرة مدقعة الفقر ونمد الولائم في المآتم وكأنها قرابين قوم موسى ، ثم لا نتذكر أن في أقرب البلاد إلينا أصبح الشعب لا يستطيع تشييع جثامين موتاهم، ومنهم من يدفن في مقابر جماعية، لأن حكامهم لم يرعوا حق الله في شعوبهم، والشعوب لم تعمل عقولها في التفكير في إصلاح أنفسها قبل الوقيعة. عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال:(ما من عبد يسترعيه اللَّه رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلاحرم اللَّه عليه الجنة )، وهل الجنة إلا نهاية الجزاء، فكيف بكل ما نراه من بعض أرباب الأسرّ وأرباب المسؤوليات والوزارات والرئاسات وهم يمتلكون أمر رعيتهم ثم يغشونهم، فجميعنا نبني القصور وننسى القبور التي كان الأصل أن نعمرها بالأعمال الصالحة، والأمانة في الرعية والعائلة والعمل، ونتقي الله في ما نقول وما نكسب وما نسعى له.
... حفظكم الله جميعا
Royal430@hotmail.com
الرأي