حين دخل الاعلام العربي الى المرحلة الفضائية سارع المتفائلون الى التبشير بدور قومي فاعل للقنوات الفضائية، ومنهم من رأى انها ستلعب دورا في انقاذ العرب من عزلتهم التي فرضتها نظم سياسية مُتناحرة، وكان لا بد ان يكون المرء يومئذ على قدر من السذاجة السياسية كي يصفق لتلك البشارة ، واول ما خطر ببالنا في تلك المرحلة هو ان عدوى الارضيات ستصل الى الفضائيات بكامل فيروساتها الرشيقة القادرة على التأقلم مع كل طارىء.
والان بعد ان اصبح الفضاء يعجّ بالاقمار وبالتالي بهذا العدد الهائل من القنوات ما الذي حدث ؟ الاجابة تتولاها الفضائيات ذاتها فهي ليست فقط انعكاسا للواقع، بل ساهمت في انتاجه على هذا النحو الكارثي، لأن هناك قنوات تبنّت التضاريس الطائفية في الوطن العربي، وبدأت على مدار الساعة تغذّي هواجس انفصالية وبالتالي تنتج هويات صغرى تتغذى كالاعشاب السّامة على جذر الهوية الام.
وهذه ليست المرة الاولى التي يحول فيها العرب نعمة الى نقخة، فقد فعلوا ذلك بثرواتهم سواء كانت في باطن الارض او على سطحها، وفعلوا ذلك بامتيازهم الجغرافي وما يتمتعون به من مواقع استراتيجية، ويبدو ان كل اختراع يصل الى ايدينا يصبح مهددا بان تصبح وظيفته عكسية، فما اخترع لاختصار الوقت والجهد حوّلناه الى اداة لتدمير الوقت وتبديد الطاقة، تماما كما حوّلنا الفائض في كل شيء الى مديونيات.
والعرب الذين يبكون ويشكون بسبب التكاثر الديموغرافي لم يتجاوز عددهم ثلث مليار، ولديهم من الثروات والمساحات ما يكفي لأن يصبح عددهم مليار عربي، ومن يتصور اننا نبالغ في هذا الرقم عليه ان يعود الى الارشيف القومي، ليعرف كم انفق العرب على التسليح الذي استخدم في حروب الاخوة الاعداء لأن الحرب مع الغزاة وضعت آخر اوزارها منذ عقود وهذا ما ادى الى اعادة ترتيب الاولويات، فالاساسي اصبح ثانويا والعاجل اصبح آجلا، واختلط الامر على الناس بحيث لم يعودوا يفرقون بين التنمية والانيميا، والناس في هذه الجغرافيا الجحيمية لم يتقدموا الا في العُمر وفي اخضاع اذكى الحواسيب لاحصاء خسائرهم المتصاعدة.
ومن يتصور ان الخمس العجاف التي مرت على العرب قد انتهت عند هذا الحد هو إما مُتفائل مفرط في الرّغائبية الفكرية، او نائم في العسل كما يقال، فالقادم تسبقه رائحة تزكم الانوف!
الدستور