خلدون الصبيحي الابداع في ذاكرة الوطن
03-07-2008 03:00 AM
لم يكن قد تجاوز السادسة والعشرين حين كتب مقالاً في عموده الصحفي في \"الرأي- ماذا بعد\" منتصف السبعينيات من القرن الماضي أثار ضجة واسعة في المجتمع، ولا يزال المثقفون الذين عاصروا تلك الفترة يذكرون ذلك المقال بعد مضي أكثر من ثلاثة وثلاثين عاماً على نشره وكأنه كتب بالأمس القريب، وهنا يكمن الذكاء والإبداع والقدرة على تطويع اللغة واستخدام الألفاظ والعبارات لإيصال الفكرة، فلم يكن المقال من النوع القابل للفهم بسهوله، وكم من كتّاب كتبوا آلاف المقالات الصحفية إلاّ أنها ذهبت أدراج النسيان والقليل منها فقط ما يزال يُذكر لأسبابه وتداعياته..
وخلدون شاعر وإن كان مقلاً جداً لكنه كان شاعراً لاذعاً، كتب الشعر في أصعب الظروف وأحرجها، وكان صعباً عليه أن ينشر كل ما كتب وهو القائل (لا يملك من لم يتألم أن يتكلم) عبارة تختصر مسافات ومراحل شاسعة ومعقدة في حياة الإنسان والمجتمعات البشرية في ظل معاناة يعيشها عالمنا المأهول بلا حدود..!! خلدون الصبيحي كان سابقاً لزمانه في تفكيره وخياله الواسع ونظرته وتطلعاته العميقة للحياة، فبالإضافة إلى حياته المهنية التي كرّس لها جزءاً كبيراً من جهده وفكره وعطائه، ونظرته لمستقبل العالم غذائياً باعتباره متخصصاً وخبيراً في السياسات والشؤون الزراعية والإرشاد والتنمية الريفية، وله إسهامات مهمة على هذا الصعيد محلياً وإقليمياً ودولياً، حيث كان على رأس منظمة دولية حكومية زهاء عشر سنوات هي منظمة (المركز الإقليمي للإصلاح الزراعي والتنمية الريفية في الشرق الأدنى)، التي خطى بها خطوات متقدمة على طريق النجاح منذ بدايات تأسيسها، وكان حريصاً على إبقاء مقرها الرئيس في عمّان، وعلى توسيع قاعدة عضوية المركز، ويشغله هاجس إدخال كافة دول الإقليم في عضويته، وقد بذل جهوداً كبيرة على هذا الصعيد مع كافة الحكومات المعنية من أجل تعميم الفائدة ومد نشاطات المركز في مجالات التنمية الريفية والإرشاد الزراعي، وخصوصاً في حقل تدريب وإعداد الكفاءات والخبرات اللازمة لمختلف دول الإقليم.. بالإضافة إلى ذلك كان خلدون مثقفاً عميقاً وكاتباً وأديباً مبدعاً، كتب المقالة الصحفية ومارس مهنة الصحافة مطلع حياته المهنية، وهو قاص وروائي، أبدع (الكتابة من الداخل –مجموعة أعمال أدبية) و (جمهورية ساندويتش الديمقراطية – رواية)، و (شارع التنمية – مجموعة قصصية) كما أن له ثلاث روايات جاهزة للنشر، ربما سيكتب لها أن ترى النور بعد أن انتقل صاحبها إلى الرفيق الأعلى، إضافة إلى إنتاجات أخرى أكاديمية ومهنية مميزة في الإرشاد والتنمية والإصلاح الزراعي .. كما كتب (شهادات 61 رجل وإمرأة اعتنقوا الاسلام)، انتقى فيها أبرز وأهم شهادات لشخصيات عالمية مؤثرة اعتنقت الاسلام.. وقد تميز الإنتاج الأدبي لخلدون بطابع خاص ومميز، وليس في متناول فهم الجميع، فلم يكن يكتب لكافة الشرائح، إلاّ أن كل من قرأ له أشاد بإبداعه، واعترف بقدرته على الكتابة الأدبية اللاذعة الناقدة للكثير من الظواهر الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في مجتمعاتنا، فكما كان مشغولاً في البحث عن سبل الإصلاح الزراعي والتنمية في مجتمعاتنا العربية، كان في الوقت ذاته وتماماً مسكوناً في إيجاد سبل إصلاح وتطوير المجتمعات العربية ونقلها من التخلف إلى الحداثة ومن الفساد إلى النزاهة، لذلك كان يحمل قلماً ناقداً نزيهاً حراً جريئاً أشهره في وجه الفاسدين الذين لا يريدون لمجتمعاتنا أن تتطور أو أن تتطهر..!!
لا أستطيع أن أختزل في مقالة قصيرة كهذه مسيرة حافلة بالعطاء المميز لخلدون الصبيحي، وربما أنني لست مؤهلاً للخوض في تفاصيل أكثر دقة في مسيرته وعطاءاته وإبداعه، فقد كان يرحمه الله يكبرني بستة عشر عاماً، وأعترف بأنني لم أفهم الكثير من كتاباته على وجهها الحقيقي، رغم محاولاتي العديدة..!! رحل أخي خلدون وهو يحلم بجمهورية \"ساندويتش\" الديمقراطية.. أما التقارير التي كتبها عن تلك الجمهورية فستظل أمام القاريء والأجيال القادمة لكي يستخلصوا منها معالم الوجه الحقيقي للجمهورية المنشودة.. رحم الله أخي خلدون الكاتب والروائي والمثقف والأكاديمي والزاهد.. وما يعزينا في فراقه إجماع الناس على محبته وشهادتهم له بالتقى والورع.. وما أعلمه أنه ما أضاع صلاة الفجر في جماعة منذ أكثر من عشرين عاماً وما توانى يوماً عن عمل الخير .. وذلك هو الفوز العظيم..