كان مما قاله الحريمي الشاعر:
لا تنظرن الى عقل ولا أدب
إن الحظوظ قرينات الجهالات
وكان مما قاله ابو الدرداء:
من يزدد علماً يزدد وجعاً
ولو ذهبنا نطلب اراء رجال من وزن أبي حيان التوحيدي والبحتري الشاعر قديماً, والعقاد وزكي مبارك حديثاً, في دوران العقل مع فقر وشقاء ودوران الجهل مع غنى وسعادة, لكان لنا الدلائل المتظاهرة هل أن «عقل المرء محسوب عليه من رزقه» وأن صاحب العقل إن ادركته الحسرة على المال فإن ذلك قادح في عقله, على حين أن صاحب المال ان ادركته الحسرة على العقل فإن ذلك مثبت له لون مروءة.
وغاية ما يستقر عنده النظر في مسألة العقل والمال أن «الغنى غنى النفس» وأن الفقر على الحقيقة هو فقرها وإن امتلكت ثروة قارون وتقلّبت في بلهنية عيشه ورغيد احواله.
ذكر من سيرة الامام أحمد بن حنبل أن الخليفة المتوكل بعث اليه بعشرة آلاف دينار فـأبى أن يأخذها, وأنه حين مسّه الجوع بعد ذلك تناول بعض الباقلاء حامداً الله على أن اغناه بذلك عن ان يمد يداً سفلى الى احد من
الخلق.
وفي تمثّل معاصر لدلالات هذه الواقعة نقول إنه لمّا كانت علبة السردين أو صحن الفول أو بضع حبّات من الفلافل مع رغيف خبز, لما كان أيّ من ذلك يشبع المرء, فإنه لا حجة لصاحب عقل في أن يؤجّر عقله, أو أن يستخذي لصاحب مال او سلطان..
وفي تمثل آخر لمعنى الكلام معقود الآصرة بواقع الكتابة السياسية نقول إنه لا قوة تجبر احداً على أن يكون صنيعة لجهة ما, ما لم يكن سقوط الهمّة جزءاً اصيلاً في بنيته النفسية. ويكون ذلك اكثر ما يكون واشدّه ضرراً حين يمكّن اصحاب مثل هذه الفسولة الاخلاقية من المنابر المؤثرة في الرأي العام, أو حين يصبحون ابواقاً تنعق بما يخدم سياسة هذه الدولة أو تلك دونما اعتبار للوطن ومصلحته. وكل ذلك اليوم مشهود ومرصود, ويعلم مجترحوه أنهم مكشوفون, ويعلمون الى ذلك أن ثمة غفلة أو تغافلاً أو ما شئت من اسباب تبقيهم في ما مردوا عليه من تلبيس وتعمية وكدية واصطناع.
حال عربية (نسبة الى الواقع الذي تفتك به) لا تنقضي الا مع الانتباه الايجابي الفاعل من جهة, ومع استعادة الانموذج الاخلاقي الذي يكون فيه العقل والقيم العليا في سياق, ويتأبى الوعي فيه أن يكون برسم البيع أو التأجير, من جهة اخرى..
على أن ثمة جانباً من المسألة لا يقل اثراً عن جانبها الاخلاقي, وذلكم هو الغرور الذي تمتلئ به بعض الرؤوس حين ترى نفسها, بفعل فاعل أو فاعلية, فوق منبر أو في موقع من يسمع له كلام, فهي تمتلئ بوهم أنها «ضرورة» لا مندوحة عنها, وحتم لا فرار منه, او حتمية تاريخية يقضي بها الوقت ويفترضها الاوان. وأن الجهل والغفلة اللتين يفترضانهما في الناس لن تسحبا غطاءهما عنهم بحال.
ولمثل هؤلاء نقول ما قاله الاصمعي:
وإني لأغنى الناس عن متكلّم
يرى الناس ضلالاً وليس بمهتدي
وهي بعد ضلالة فوق ضلالة فيا ليت قومي يسمعون.
الرأي