ترسل دمشق الرسمية بشار الجعفري مندوبها في الامم المتحدة، في نيويورك للتباحث مع المعارضة السورية، في جنيف، وهي هنا ترسل شخصا خطيرا جدا، دبلوماسيا وامنيا، على الطريقة السورية المعروفة.
الجعفري من ابرز شخصيات النظام المؤهلة لهكذا مهمة تحتاج الى الصلابة والصلافة معا، في ذات التوقيت، والمقربون من دمشق يقولون ان الاسد يفكر به رئيسا للوزراء في بلاده، في مرحلة قريبة اساسا.
قابلت الجعفري اول مرة في حياتي في نيويورك، وكنا بمعية زملاء نحضر جلسة مجلس الامن الذي كان يرأسه الاردن والجلسة مخصصة لسورية وفلسطين، لكننا في هذا الجزء تحديدا كنا في الجانب الذي يتعلق بفلسطين.
لسبب ما، خرجت من الجلسة قليلا، وحين كنت اهم بالعودة، الى الجلسة كان يخرج منها، بشار الجعفري وحيدا،
ودون سابق موعد نادى علي باسمي شخصيا، متسائلا اذا ماكنت فلانا من الاردن، برغم عدم معرفته لي شخصيا بشكل مسبق، والنداء كان مربكا بحق!.
يومها استذكر مقالا لي في «الدستور» حول السفير السوري السابق في عمان، مناقشا اياي في المقال الذي على مايبدو وزعته الخارجية السورية على سفرائها في العالم، وذاكرة الرجل قوية الى الدرجة التي يحفظ فيها اسم الكاتب وصورته، مطابقا صورته في الصحيفة بالصور الحية على الفضائيات، بالصورة الماثلة امامه، فهو ذهنية امنية من طراز مختلف.
يومها وجه اتهامات حادة للاردن، وناقشته بشأنها، لكنه اصر على اتهاماته، وهي ذات الاتهامات التي نسمعها في جنيف في مؤتمره الصحفي بشأن الاردن، وموقفه مما يجري في سورية، فدمشق لا تجد سوى الاردن وتركيا لتعليق كل مصائب الملف السوري على كتفيهما، دون اقرار ببقية المشاكل.
برغم ان لا احد يصدق في المنطقة ان دمشق الرسمية مطلوب رأسها من اسرائيل الا انه كان لافتا ان يحاط الجعفري في جلسة مجلس الامن تلك بأربعة على الاقل من موظفي البعثة الاسرائيلية في الامم المتحدة، رجالا ونساء، والجعفري كان يحضر الجلسة ويستمع الى ما يجري في مجلس الامن، الا انه كان محاطا بسوار من هؤلاء، دون سبب واضح.
لم اعرف انهم من الاسرائيليين الا حين غادر الجعفري مكانه، ورفع مندوب اسرائيل في الامم المتحدة - وكان قد استلم موقعه للتو يده اليمنى يريد بعض موظفيه كي ينتقلوا اليه- فتحركت كل المجموعة التي كانت تحيط بالجعفري، ذلك اليوم، فرادى وانتقلوا الى حيث يجلس المندوب الاسرائيلي!.
لا احد يعرف السبب يومها، ولا احد يدعي ايضا، ان الجعفري كان في مهمة انتحارية مثلا، لكن السلوك الاسرائيلي يبقى لافتا للانتباه، في ترقب حركات الرجل يومها، وربما بعدها، ولربما هذا هو عمل تقليدي للبعثات الدبلوماسية في مكان مثل مجلس الامن، فكيف حين تكون البعثة اسرائيلية؟!.
مناسبة الكلام عن بشار الجعفري ان اختيار شخصية من طرازه لمحادثات او مفاوضات مع المعارضة السورية، يعني امرين مسبقا، اولهما خبرته الشرسة في المحافل الدولية والعلاقة مع الاعلام، وثانيهما، ان نتيجة المفاوضات معلنة منذ هذه اللحظة،اي الفشل الكبير، ودفن المفاوضات في جنيف الباردة.
استعمل الجعفري، قبل يومين، تعبيرا مجازيا حين وصف شروط دمشق الرسمية بمثابة فاتحة وقرآن، اي بمعنى القدسية وعدم التراجع عنها قائلا، ان دمشق ليست امام مفاوضات، بل محادثات، اضافة الى ان دمشق لا تقبل اي شروط مسبقة، وهو هنا، كان ينعى فعليا كل العملية السياسية، التي قامت اساسا على الشروط الواردة في قرارات الامم المتحدة، وبدون هذه الشروط يصير التباحث او التفاوض، مجرد مضيعة للوقت.
خلاصة الكلام، ان بشار الجعفري، كان الرجل الذي اعلن دفن التسوية السياسية في الملف السوري، حتى يثبت العكس، ودمشق هنا، ارسلت ورقة «الجوكر» في اوراقها، للمهمة الاصعب بالنسبة لها، وهي المهمة التي تأخذنا الى مابعدها من حواسم وفصل على كل المستويات.
الدستور