الثقافة السياسية السائدة على أغلب المستويات والشرائح العاملة في المجال السياسي العربي تنزع نحو الهدم وليس «نحو البناء»، وأصبح المعيار المعتمد لدى عامة الجماهير في الحكم على الأحزاب السياسية والشخصيات السياسية مستنداً إلى امتلاك القدرة على النقد اللاذع للوضع القائم، وأدى ذلك إلى الوصول إلى نتيجة منطقية مترتبة على ذلك أنه لا سبيل إلى النجاح والتقدم إلّا بهدم الوضع القائم، لأن التبرير السهل: أنه لا مجال للبناء إلّا بالتخلص من التراث السابق، مما ولّد ثقافة سائدة تكاد تكون محلاً للسكون والصمت أو الموافقة، أو الممارسة هي ثقافة الهدم.
ثقافة الهدم حالت دون تربية الجموع والجماهير، وتربية الأجيال الصاعدة على مهارة البناء والإبداع، على خلاف ما يجري في معظم الدول المتقدمة، التي استطاعت تجاوز هده الحالة، وانطلقت نحو إشاعة ثقافة البناء وامتلاك مهارة الإضافة إلى ما خلقه الأجداد والسلف السابقون.
هذه المشكلة ليست قاصرة في أصل نشأتها على الأحزاب والقوى السياسية، بل يمكن القول أن أطرافاً كثيرة أسهمت في وجودها وتأصيلها وتعميمها، وربما تكون الأنظمة الاستبدادية التي حكمت ردحاً طويلاً من الزمن هم من اذكى شرارة هذا الشعور الذي أصبح بيئة مناسبة لترعرع ثقافة الهدم.
الأنظمة القمعية التي حكمت ما يزيد على نصف قرن، استطاعت تنميط الحياة على هذا اللون غير الطبيعي، واستطاعت ترسيخ مفهوم الدولة الريعية التي تشعر المواطنين بأنهم أتباع وليسوا شركاء، وتمثل ذلك بطريقة إدارة الدولة وطريقة التعامل السياسي بين المسؤول والمواطن، وأصبح اللفظ المعتمد بالتعبير عن المواطنة هو مصطلح (الرّعية)، ومصطلح الرعيّة مصطلح قديم متوارث يستخدمه السياسيون وغير السياسيين وهو في أصله مشتق من رعاية الغنم، حيث ورد أحياناً تعبير «الخراف الضالة» كناية عن جموع المواطنين.
هذه الثقافة تعطي راحة للطرفين، طرف السلطة الذي يريد الاستفراد بالحكم والقرار، ولا يريد أن يتحمل عبء المشاركة الشعبية، وما يستتبع ذلك من رقابة ومكاشفة وخاصة فيما يتعلق بالمسائل المالية والاقتصادية، وفي الوقت نفسه يعطي راحة للأحزاب والقوى السياسية حيث يسهل عملها بالاقتصار على نقد الوضع القائم، ولا تحمل نفسها عبء التفكير بالحلول وعبء البحث عن البدائل، وما يترتب على ذلك من تعرضها للفحص والتقويم والنقد، مما يجعلهم تطبيقاً واقعياً للمثل العربي القائل : « أشبعتهم شتماً وأودوا بالإبل»، فالقوى والحركات السياسية الغاضبة امتلكت مهارة الشتم للوضع القائم، والأنظمة المتسلطة امتلكت مهارة الاستفراد بالسلطة والمقدرات.
لم يقتصر الأمر على هذا الأثر، بل ما نراه ونحسه في الواقع العربي البائس أن الأنظمة الفردية الديكتاتورية استطاعت إفراغ الدولة من المؤسسات، وسلبت الشعوب مهارة العمل المؤسسي والعمل الجماعي المنظم والتمكين المجتمعي، مما أدى إلى الفوضى والخراب والتدمير الشامل بعد ذهاب الزعيم الأوحد.
الدستور