منذ ستينيات القرن الماضي, والعالم المتقدم يشهد طفرة في ازدياد مراكز الاستطلاع, والتركيز على نتائجها, كمقياس لتوجهات الرأي العام, وأداة تشخيص فعالة, لأحوال المجتمع, وتقييم انطباعاته في قالب علمي ثمين, يستخلص التوجهات العامة للناس, من قضايا سياسية واجتماعية واقتصادية ومعيشية, لتصبها في نتائج محددة الملامح, تقوم بعمل المحدد لسياسات الدولة التي يجري فيها الاستطلاع, يُنظر إليها بجدية في الدول الديمقراطية, التي تهتم برأي مواطنيها. وبمعنى آخر؛ تلعب الاستطلاعات, إن تم التأكد من نزاهتها وبنائها على أسلوب علمي صحيح, دور حلقة الوصل بين المواطن والحكومة, التي تتكفل صناعة القرار وفقا للمصالح العليا لشعبها.ولعل الأردن الذي كان سباقا, في المنطقة, عن غيره من الدول, في انتهاج الديمقراطية, كنمط وأسلوب يحكم العلاقات الداخلية, بين المواطنين والمؤسسات الحكومية, والقوى السياسية والدولة, كخليط متكامل في المملكة, يشهد حالة من النضج الشعبي العام, الذي يكفل نجاح أي مهمة, تهدف إلى استطلاع رأي المواطنين, وجس نبض الشارع وأخذ رأيه بصورة تقييمية, من قضاياه التي تمس حركته اليومية, سواء أكانت, في السياسة أو الاقتصاد, أو أموره الاجتماعية. فيما تبرز أهمية الاستطلاع وقيمته, من مدى استجابة الحكومة له, وطريقة تعاطيها مع نتائجه, سلبا أو إيجابا, وهذا رهن بحالة الإيمان, بالديمقراطية وقناعة المسئولين بها وبسيادتها في الدولة. بينما القيمة الأخرى, تتجلى في مقدرة الاستطلاع المنجز في التأثير بالرأي العام, وتوجيهه, وقدرة الاستطلاع نفسه وفقا لمعايير النزاهة والشفافية وكفاءة الجهة صاحبة الاستطلاع, على فرض نفسه كدليل ومرجع علمي, تحتكم إليه الجهات المعنية, بنتائج الاستطلاع, في المؤسسات الرسمية, وعلى رأسها المؤسسة البرلمانية, بصفتها جهة تشريع قانوني, ومنبر لطرح مشاكل وآراء المواطنين, في الدولة, ومن هنا نجد التفسير الكافي في اهتمام البرلمانات, باستطلاعات الرأي.
وبشيء من التخصيص, في الحالة الأردنية, أجد نفسي معجبا بأنموذج جاد وفعال, وصحاب مصداقية في رؤيته, دونا عن بقية مراكز الاستطلاع الأخرى, ألا وهو مركز الدراسات الإستراتيجية بالجامعة الأردنية, كونه أثبت بما لا يدع مجالا للشك, وفقا لمتابعتي لإصداراته واستطلاعاته ودوره التقييمي, منذ سنوات, أنه أهلا لأن يكون جهة احترام, ومبعث اعتزاز وطني, ومحط تقدير كبير, كمركز تعدت سمعته حدود الأردن, ونقطة ارتكاز في تعميق أواصر العلاقة بين الشعب والحكومة, وتلك هي إحدى سمات الديمقراطية, التي نفخر كأردنيين بها, كممارسة تلازم الشعار. فمركز الدراسات الإستراتيجية الذي تأسس عام 1984م, كوحدة أكاديمية في الجامعة الأردنية, ليقوم بعمله بشيء من الاهتمام الحصري, بإعداد الدراسات والبحوث الموضوعية, في سياقات الصراعات الإقليمية, والعلاقات الدولية, والأمن والاقتصاد السياسي, كان قد تطور مع مطلع التسعينيات, ليصبح متوسعا في اهتمامه بقضايا أخرى, وعلى رأسها عملية الدمقرطة الأردنية, وذلك منذ عام 1989م, ومن ثم قضايا أكثر حساسية, كالتعددية السياسية, وعملية السلام, والتنمية والاقتصاد والبيئة في المملكة. ويحسب للمركز استطاعته أن يجعل من نفسه ماركة أردنية مميزة, في مشاركاته بمؤتمرات دولية وعربية, وورشات عمل عقدتها منظمات تهتم بالرأي العام, والمسح الاجتماعي, ومقدرته على التفاعل مع أكثر الملفات شمولية وأهمية, كقضايا الرأي العام, وإعداد الدراسات الجيوسياسية, والاقتصادية, ودراسات البيئة, وليس آخرها قضايا حقوق الإنسان, ومقدار التطور فيها.
أما عن أهداف المركز, فإنها تتقاطع مع أهداف أكثر المراكز المختصة بالدراسات الإستراتيجية, في المنطقة, وانسجام العمل معها أي الأهداف يمثل نجاحا للمركز, كون الأهداف تتعلق بالقياس الدقيق والسريع, لاتجاهات الرأي العام، بما يدعم اتخاذ القرارات المتعلقة بالقضايا, الاقتصادية والاجتماعية والسياسية, المثارة محليا وإقليميا وعالميا, والقوانين والقرارات التي يتم اتخاذها بشأن مختلف القضايا. بالإضافة إلى بعض الأهداف الفرعية, ومنها تحقيق المزيد من التواصل بين الحكومة والمواطن, والمساهمة في بناء ثقافة مجتمعية تتقبل فكرة استطلاع الرأي، والتشجيع على المشاركة الإيجابية في الحياة العامة.
يبقى أن نقول, أن أي منظمة أو مؤسسة دولة ترغب في النجاح, سيما إن كانت تحتك بالجمهور بأية وسيلة, فإنها تقتضي مثل هذه الخطوة الرائدة في تحديد المشاكل وتشخيصها, أولا بطريقة علمية، تجنبا للطريقة الانطباعية. وأكثر الطرق العلمية كفاءة, هي إجراء استطلاعات متواصلة للرأي العام، لمعرفة أهم المشاكل التي يعاني منها، ومعرفة أولويات هذه المشاكل حسب شعور المواطنين وإحساسهم بها، وهو إحساس ينطوي على معاناة بلا شك. فمن شأن الطريقة العلمية الاستطلاعية أن تضع حدا للطريقة الأبويّة التي يتبعها المسئولون في الحكومة أحيانا، حين يحددون مهمات وأهدافا, يقولون إن تنسجم مع حاجات الشعب. وهنا الشعب هو الذي يحدد المهمات والأهداف، بطريقة تقل فيها فرص الانطباعات، والتصورات المسبقة، والأجندات السياسية غير المجدية، والشخصانية, عبر تقييمه وإدلاء رأيه فيها لاحقا. وتجارب الغير تحكي, أن الدول المتقدمة لا تستطيع الاستغناء عن الاستطلاعات مطلقا, والظاهر انه لا يمكن للسياسيين المحترفين والمراقبين السياسيين, أن يستغنوا عن الاستطلاعات أيضا, لأنها تؤدي وظيفة هامة من حيث كشفها لأعمق الأفكار العامة، والمشاعر الجماعية، والتحيزات، والقيم، وسلوك الجسم السياسي في البلاد, والمشاكل المشتركة, وتقييم أداء الحكومات, وهذا من روح الديمقراطية.
* الكاتب باحث أردني في العلاقات الدولية.