لماذا يموت الشجر واقفاً .. !
30-06-2008 03:00 AM
كنت أزور ذلك البستان جالسا إلى جانب شجرة كبيرة ، وإذا بكرسي قد نُصب وجلس عليه رجل عظيم كأنه القيصر ، ذلك الهيلمان الذي لم أر مثله في حياتي ، فأيقنت في نفسي أنه ليس إنسانا عاديا ، وتأكدت من ذلك عندما رأيت من حوله رجالاً كثيرين منهم من يقدم العون ومنهم من يقدم الطاعة ، وأخذ
يخطب فيهم خطابا لا أعرف ما لغته وما مضمونه وهم يهزون رؤوسهم معلنين الرضا والقبول بما سمعوه ، فلم أعرف لحظتها إن كانوا قد قبلوه بالموافقة أم أجبروا على الموافقة بقبوله ، ولكنهم بالنتيجة فعلوا ما كان يرغب فيه ذلك الرجل فذهب كل منهم إلى مكان عمله ليلبي رغبة هذا الرجل الذي لم أعرفه لغاية الآن.وبينما هو جالس ينتفخ شرفاً وإذ بطير صغير جاء إلى تلك الشجرة التي كان يجلس تحتها وأخذ يأكل من أزهارها وثمارها باطمئنان دون أن يخاف من مصير ينتظره ، فصرت أنظر إليه وأحدث نفسي وأتفكر من أين جاء هذا الطير ومن ساقه إلى تلك الشجرة في ذلك المكان وفي تلك اللحظات ؛ فأحسست بعظمة الخالق الذي ساق ذلك العصفور إلى أكل ما كتب له من نصيب ، وظللت أنظر إليه وهو يستكمل ما تبقى
له من تلك الأزهار والثمار ، مستمتعا ومعلنا أمام نفسي أنه ما هو إلا مخلوق متوكل على خالقه دون أن يخاف من ضيق رزق أو من قلة ذات اليد ، وإذا بمنظر عجيب أدهشني وأخافني عندما نظرت إلى ذلك الرجل وهو قابض على سلاحه الثقيل يريد أن يضع فيه بضع طلقات حجم كل واحدة منها أكبر من حجم العصفور بعشرات المرات ، مصوباً مقدمة ذلك المدفع الغريب نحو العصفور الصغير حتى رماه بطلقة فجرت أحشائه ولم يظهر من جسده شيء!!. فزعت لذلك المنظر وأخذت أطلق نظراتي وأنا متسمرٌ في مكاني لأرى أثراً لذلك العصفور فلم أجد أي أثر له ، ولكني وجدت أن تلك القنبلة كسرت أغصان الشجرة وأحرقتها. فبدأت أتساءل ما الذي يدفع رجلا كمثل هذا أن يقتل عصفورا بقنبلة مدفع ، وما هي الغاية .
من ذلك ، وهل ما فعله كان حلاً نهائيا ليضمن عدم عودة العصفور بغض النظر عن حجم الخسائر ، وهل تلك الشجرة البائسة هي ملك له ، وإذا كانت ملكاً له فلماذا فعل ذلك ليخسرها مقابل أن يقتل عصفورا لا حول له ولا قوة ، فأخذت أفكر وأفكر بمن سيكون ذلك الرجل وما الذي حمله على فعل ذلك قاصداً في تفكيري أن أتبين انه عظيم حقاً ؛ أم من حوله هم الأقزام ، فهو بنظري أصبح رجلا غير سوي ، وجاوبت نفسي بعد أن سألتها لو كان ذلك الرجل قيصراً فليست تلك أخلاق القياصرة وإن كان صاحب هيبة وجاه فليس هذا من أخلاق أصحاب الجاه ، فقررت أن اسأل عنه وأتقصى أمره ؛ فاقتنصت الفرصة المناسبة لأجد رجلا من رجاله فبدأت أحقق معه بطريقة غير مباشرة لآخذ منه ما أريد ، فدهشت عندما وجدته رجلاً أكمه لم ير منذ ولادته أبدا ، وإنما يسمع أوامره دون أن ينظـر فيها ، فتركته وذهبت إلى رجل آخر فسألته عن أخبار صاحبهم وكررت السؤال لأكثر من مرة فوجدته أصم لا يسمع ما أقوله له ، فذهبت إلى رجل آخر فوجدته أبكم ليس لديه القدرة على الكلام فذهبت إلى الرجل الأخير من رجاله فسألته فإذا هو يرى ويسمع ويتكلم ولكنه شبه عاجز عن الحركة ، فأجابني قائلا بأن ذاك الرجل هو جارنا في قريتنا تملق أبوه في عدائنا ، وبات في قيلولته الطويلة فساقني كلامه إلى فضول معرفة ذلك الشخص ، ولكن قبل ذلك بودي أن أعرف الكثير عن الرجل صاحب العصفور فسألت عنه وعن عظمته وكيف أصبح عظيماً ومن الذي قدم له تلك العظمة ؟ .. ولكنه لم يجب واستمر في الحديث عن قبيلته كأنه يريدني أن أعرف ما يريد هو إخباري به ؛ فالتزمت الصمت وقررت أن أمشي معه إلى تلك القبيلة لأرى ماذا يخبأ لي من أخبار ، علني أجد ما صرت مشتاق لمعرفته.
مشينا في مشوارنا الطويل حتى وصلت إلى تلك القرية ودخلتها بعد أن كانت رحلة شيقة كنت أرنو فيها بشوق عميق لرؤية ذلك الرجل الذي ربى صاحب العصفور وكنت متيقناً بمفهوم أعتقد أنه صائب
وهو "أن الظبي أبنٌٌ للغزال ؛ وإن من يمكر فأبوه ثعلبً"... وعندما وصلت وجدته رجلا صهيونيا ينام على سريره وأمامه قوارير من الخمر ومقاعد من ريش النعام لم تستقبل أحدا منذ شهور ، ومنضدة بالية عليها أقلام حبر جافة ، ومكتبة تحتوي على صحفٍ معارضة وكتب متناثرة وخريطة تمثل طموحاته ، وجدران معلقة عليها تقاويم لسنوات ماضية تبدأ أوراقها بأوائل أعوامها ، ومن حوله شجرٌ تعودت جذورها على الاستنكار والشجب ؛ ورضيت بالسلب والنهب ، فكان ناتجهم صفراً بعد أن تم وضعهم في جدول الضرب ، فزادت تعاستي بغربتي وخرّت بي قدماي في ظلمة الدرب ، فتلك شجرة ذليلة لليهود ؛ وتلكم شجر يشاهد ألوان العذاب من الصرب ، فنظرت خلفي وإذا بدار تدلل فيها كلاب عليهم الطيالسة وفيها أغنام لم تهرب خوفا من الذئب ؛ مكتوب على بابها جمعية الرفق بالشعب.
سخطت لذلك المشهد الرهيب ، تسمرت في مكاني لأجد مخرجا من المكان الذي وضعت فيه نفسي ، وأخذت أفكر "برحمة نزلت في قضاء" حتى ساقني نظري إلى مكان قريب فيه أشجار خضراء صغيرة ، حدقت فيها متلهفاً لمعرفة حقيقتها فأخذت أسير نحوها مسيرة تفاؤل في طريق ليس بطويل ولكنه شاق جداً ؛ حتى وصلت إليها لأجدها أشجاراً شابة ؛ أزهارها مليئة بالرحيق ؛ لحاؤها رطب بالفكر السليم ، فابتسمت بعد ما كنت متألما لفراق الابتسام من أثر حرب نفسية أشبه ما تكون بحرب طروادة بين الابتسام والحزن ، فحثثت نفسي على التفاؤل لأرى في نفسي مصباحا ينير تلك الطريق الظلماء ويدعوني لإعداد العدة لرحلة تفاؤل تحمل بين أمتعتها أجمل معاني الابتسام ؛ فأيقنت لحظتها أن الشجر عندما يموت لا يموت إلا واقفاً لأن جذوره متمسكة في أرض خصبة طيبة ، أرض تدعوني لزراعة المزيد من الشجر المثمر والذي بدوره يخرج الورود التي وأن ذبلت تبقى وروداً ، فتعلمت (أكل الفالوذج بدهن الفستق) ، وتعلمت كيف أدرأ المفسدة لأقدمها على جلب المصلحة ، حتى أصل إلى علاج تشويه أنسجتي العقلية ، فأقدم طفلا يكون أباً لرجل يحتاجه ذلك البستان الفقير ، لأسير فيه إلى عالم المجد والرفعة والكرامة.