مع تدافع الناس في زحمة الحياة ... تتبدل أشياء كثيرة، تَسْكُن أحياناً، وتلتهب أحياناً أخرى، وتتدخل التقنية للتحكّم في مسيرة الفرد حتى تسلب منه إرادته، ويصبح مسكوناً بالامتثال والتبعية، ومن ذلك ما خلقته بعض وسائل التواصل الاجتماعي، والمواقع الإلكترونية، والفضائيات، من اندهاشات بين البشر، ومنها الهاتف النقال الذي بات سيّداً لكل شيء ... وألغى كل أنواع التفكير والوعي والإدراك، فبات أحدنا لا يرعوي أن ينقاد له مستسلماً لكل استحقاقاته ومطالبه وافتراضاته.
في كل الأوقات،وفي لحظات متقاربة، تجد سائقاً يحمل هاتفه بشماله واضعه على إذنه اليمنى، تاركاً جزءً قليلاً من انتباهه لمقود سيارته، الذي ربما يفقد التحكم به، فيروح يديره على غير هدى، مع أن التعليمات والأوامر والقوانين قد حاولت فرض نفسها على شكل "مخالفة سير" أو عقوبات مماثلة، وذلك إقراراً منها بخطورة ما يجري. إلا أننا كمواطنين، قد ألقينا الحبل على الغارب، لهذا الوافد الذي أصبح "كلمة حق أريد بها باطل". فليس لهذا أُخترع النقال، وليس هذه هي طريقة استخدامه، وليس من المقبول أو العقلاني أن تتحكم بنا سلوكيات، أقل ما يمكن أن توصف به، أنها مجنونة.
ولا تكاد زاوية تخلو من جهاز هاتف محمول يُستخدم بصورة غير صحيحة، فترى أحدنا وقد حشا أذنيه الاثنتين بسماعتي الهاتف، لينقطع تماماً عن أي علاقة مع الآخرين، يتحدث مع الطرف الآخر، ويناقشه ويناغشه ويطلق الضحكات وأحياناً الصرخات وكأنه مجنون فَقَد كل إمكانية الشفاء، ويروح يرتطم بهذا ويصطدم بذاك.
الهاتف النقال أُخترع ليؤدي وظيفة إنشاء التواصل بين الناس حين يتعثر بنا اتصال سلكي. وأصلآ الهاتف، من أساسه، قد وُجد لاستعمال "الضرورة"، وليس لترفيّةِ الاستخدام، هذا ناهيك عن الكم الهائل من النقود التي تدفع رسوماً وأثمان مكالمات ليس لها ضرورة.
هناك حُزُم كثيرة من السلوكيات السلبية التي بدأت تتحكم في حياتنا اليومية والتي قادتنا منذ أول الطريق، وليس في آخره، إلى هلاكات وتدمير للسكينة والأمن والتواصل الإنساني الراقي، وبات أحدنا، خاصة نحن في المنطقة، نلتقط، من هنا وهناك، تصرفات حكمتها ظروف مختلفة تماماً عن قيمنا وأخلاقنا ومبادئنا، وصرنا نتبع الآخرين بكل غباء، حتى لو دخلوا جحر ضَبّ لدخلناه دون وعي، وحباً في التقليد المتولد عن حالات كثيرة من الشعور بالنقص والدونيّة.
والغريب في الأمر، أننا كل مرّة، نتعرض للانتكاس والإرتباك وفقدان البوصلة وإضاعة الهوية والانهيار، ومع كل هذا نظل مصرّين على المشي على خطى أناس هم مختلفون عنا تماماً؛ القد على القد والخُفّ على الخف.
إنّا نعذر بعض الناس الذين ربما يتلقون اتصالات هامة من جهة أو أخرى يضطرون للرد عليها، ولكن ما الضير أن تَرْكن مركبتك على جانب الطريق، وترد على المكالمة الواردة، أما أن تظل مستمراً في سيرك، وأنت تجيب على هذا الاتصال، فهو أمر يؤدي، بالضرورة، إلى تشتت الانتباه وبالتالي الأضرار بالذات وبالآخرين، وهذا جرم مقترف عن سبق إصرار وترصد.
ومن الملاحظ أنك تجد أحدهم أو إحداهن، يُنشأ هو نفسه المكالمة، بل وأن الكثيرين يأخذون بكتابة نصوص رسائل وهم يقودون مركباتهم.
على السلطات، بالفعل، أن تُغّلظ العقوبة ليس لأن مرتكب الخطيئة يحاول الانتحار، بل لأنه، أصلاً، يريد الإضرار بالآخرين، وأحياناً يقصد أزهاق أرواحهم.
وفي المطارح الأخيرة نقول ملعون ألف مرّة من اخترع النقال، لأنه لم يضع في حسابه أن هناك الكثيرين من الجهلة الذين سيقتلهم هذا الجهاز، وسيتقلون هم بدورهم آخرين.