أصبح التعطيل والعرقلة على الصعيد السياسي مدرسة سياسية وحزبية، لها أساتذة ومريدون وأتباع، وأصبحت هذه المدرسة هي المدرسة الأقوى وصاحبة الصوت الأعلى في منطقتنا العربية على وجه الخصوص، وكانت موجودة في مناطق ودول أخرى في العالم، وربما تكون «لبنان» المثال الصارخ والأداة التوضيحية لفلسفة هذه المدرسة وحقيقة أدائها السياسي، ففي لبنان هناك بعض القوى تملك ما يطلق عليه : «الثلث المعطل» بمعنى أنها تملك العدد المطلوب من مجلس النواب الذي يحول دون اتخاذ القرارات المفصلية بالأغلبية المقررة وأن يعطل أي توجه رسمي لا يتوافق مع مصالح هذه القوة السياسية.
مسألة الحصول على «الثلث المعطل» أصبحت نمطاً عقلياً ومنهجاً سياسياً لدى أغلبية الأحزاب والقوى العربية لها أثرها الواضح في التربية والتوجيه، و تتشكل من خلالها الخطط والبرامج الكفيلة بتحقيق عرقلة تقدم الخصم إلى الأمام، والحيلولة دون تمكنه من تنفيذ خططه وبرامجه في الواقع المجتمعي وعلى صعيد إدارة الدولة، وهذا منهج متكامل له منظومته الشاملة التي تقوم على امتلاك القدرة على المناكفة والمكايدة والتعطيل والإبطال، وترتفع درجة المهارة في هذا الجانب إلى مستوى الابداع أحياناً، خاصة إذا وجدت المساندة الخارجية والدعم المالي والمعنوي.
أصحاب مدرسة التعطيل ليسوا معنيين بالبناء وتحمل المسؤولية فهم لا يريدون أن يتحملوا مسؤولية إدارة الدولة وتحمل أعباء متطلبات المرحلة السياسية، بمعنى آخر أكثر وضوحاً تقوم على فلسفة شل إدارة الدولة وعرقلة مسارها السياسي، وفي الوقت نفسه لا تضع في حسبانها تحمل مسؤولية المجتمع، ولذلك لا مانع من التوسع في النقد، ورفع السقوف والحديث بالمثاليات؛ حيث لا يشعر أنه مطالب بتنفيذها ولا يريد أن يضع نفسه في مرحلة الاختبار ابتداءً.
هذا النهج السياسي مريح جداً، فهو لا يحمل كلفة على صعيد العمل والتنفيذ، ولا يتحمل مسؤولية الخطأ والفشل والعجز في تنفيذ الخطط، وفي الوقت نفسه يستطيع أن يكسب رضا الجماهير الغاضبة على الأداء الحكومي وفشلها في حل المعضلات المجتمعية الكبرى، ومن جانب آخر يستطيع الاستثمار في هذه الحالة وتصبح مصدراً للرزق والتكسب المادي المصحوب بالمجد والبطولة، ولا ينفي هذا المنهج أحياناً تنفيذ بعض الأعمال غير المكلفة سياسياً على صعيدها الحزبي، حتى لو أدت الى إلحاق ضرر عام شامل بالمجتمع كله.
أصبح النموذج اللبناني مغرياً لكثير من القوى السياسية العربية، وشاع نمط التقليد لدى بعض الزعامات العربية الناشئة، من خلال البحث عن ذلك النمط المعارض الأسهل والأقل كلفة؛ حيث أنه لا يتحمل مسؤولية العمل والبناء، ولا الانخراط في تحمل مسؤولية المجتمعات وعناء حل المشكلات والمعضلات المستعصية، فهذه ليست مهمته، لأن مهمته مقتصرة على النقد المقذع، ورسم صورة المثال غير الخاضع للامتحان والتقويم، ولذلك نلحظ إقبالاً شديداً على تلك الأنماط السياسية التي تجلب الوجاهة بدون كلفة؛ من خلال اتقان فن الكلام والخطاب الجاذب للعامة المحبطة.
النموذج المعطل على الصعيد السياسي يلحق ضرراً بالحياة السياسية والدولة والمجتمع، لأنه يؤدي إلى تعطيل مسار التفكير الايجابي لدى العقل الناشىء، ويعطل دوره في عملية البناء، ويؤدي إلى إلحاق الشلل بالدولة ومؤسساتها، مما يؤدي إلى عرقلة عجلة النمو في كل المسارات وعلى كل الأصعدة، لأن من يحمل منهجية التعطيل لا يحمل هم التقدم ومواصلة مسيرة التحضر المجتمعي، ويشبه إلى حد كبير ما يجري على كثير من الساحات العربية في كثير من الأقطار، ويتجلى هذا النموذج فيما نلمسه ونحسه ونشاهده لدى بعض الأحزاب والقوى السياسية التي تفضل مصلحة الحزب على مصلحة الدولة كلها ومستقبلها، وتفضل الازدهار والنمو داخل الفئة المتحزبة على حساب المجتمع كله، وهنا مكمن الخطورة وهنا مكمن الفشل، وهو نموذج تدميري فج وغير مسؤول وليس نموذجا بنائيا يستحق الرعاية والاهتمام والتعميم والتقليد.
الدستور