الحديث عالٍ إلى حدّ الصراخ الذي لا يحتمل، ولا يمكن فهمه، النواب يتصارخون ويرقصون، ويطبلون على البنوك وكأنهم في كارنفال وطني، والناس ينتحرون أو يشتمون أو يتذمرون، الرؤساء السابقون أقبل بعضهم على بعض يتلاومون، الرئيس الحالي يقول إن الأوضاع ممتازة وأن الحكومة ليست حكومة جباية وأن العجز قد تقلص والمديونية قد انخفضت وأن السياسات الاقتصادية الحكومية على أفضل وجه، وأن الدنيا بخير وقد شرح ذلك هذه المرة للنواب على السبورة وبتكنولوجيا الصوت والصورة وقد صوّت له النواب كما يحدث دائما وخرج منتصرا كما يفعل دائما.
الرئيس لا يبدو منزعجا ولا مكترثا لأنه لا يمتلك أي شعبية في عمان ويبتسم منشرح الصدر يتناول الشاي دون أن يرف له جفن حينما يرى استطلاعات الرأي العام الأردني الذي لا يحسب حسابه أحد تقف ضد سياساته، كما أنه غير مبال بكثرة الخصوم والأعداء وهو مصر على المضي بشجاعة منقطعة النظير في برنامج التصحيح الاقتصادي الذي يطالبه به صندوق النقد الدولي والذي يعتمد على جيوب المواطنين فقط (...).
أصوات الرصاص والقنابل وأعداد القتلى والجرحى لم تعد تلفت انتباه أحد لكثرة تكرارها، وعدم تصدر الكوارث الرهيبة في الإقليم نشرات الأخبار لا يعني أن الخطر قد زال عن الجغرافيا السياسية لأي دولة من الدول، وانسحاب الولايات المتحدة الأمريكية لحساب إيران وإسرائيل في المنطقة بات حقيقة واقعة لابد من الاهتمام بها ودراستها والبناء عليها، والتصريحات التي نسمعها كل يوم والتي تهم الجانب الأردني بصورة أو بأخرى يجب أن تحظى بالاهتمام والتحليل والتقييم والمعالجة أيضا.
إهمال المشاكل الداخلية المتفاقمة على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي الداخلي والتقلبات في المزاج الإقليمي والدولي، وعدم الاهتمام بالقضايا الحقيقية التي تقض مضجع الناس وتضغط عليهم وتتسبب في تغيير أساليب تفكيرهم وأنماط حياتهم وسلوكهم يمكن أن تلجئهم إلى التسلح بأفكار طارئة غريبة، ولا يجب أن نتجاهل المخاوف والمخاطر ولا أن نعيش حالة إنكار للواقع أو جزء منه لأن الإنكار لا يحل المشاكل بل يؤجلها وبما يتراكم عليها من تداعيات قد تتسبب في إلحاق أذى كبير قد لا يمكن إصلاحه في البنى التحتية النفسية والمجتمعية لمكونات الوطن كله وقد نقع جميعنا في مصيدة تتشكل في الإقليم يقوم بالمساهمة بنصبها ليس لنا وحدنا بل هي على غرار ما يدعونه في الجيوش "بمصائد المغفلين" نرجو ألا نكون ممن يقعون فيها.
الحالة الراهنة تفرض علينا أن نقوم بدراسة معاناة الدول التي حولنا، والحركات القوية التي بدأت تفرض نفسها على المشهد السياسي والأمني العربي في الإقليم وخارجه لأن كل ذلك يؤثر علينا بصورة مباشرة على الصعد السياسية والأمنية والاقتصادية، وبالتالي لابد أن نجد الحلول للمشاكل التي قد تنتج عن التدهور المستمر في الوضع الأمني وفي الفوضى التي تتصاعد كل يوم، كما لابد أن نقرر في أي اتجاه نسير وما هي التحالفات التي تناسب المكان والزمان والمتغيرات التي تحصل، لأن المنطقة في حالة تحول خطيرة جدا ولن تتوقف حركة التاريخ ولن تعود الأمور إلى الوراء، وسينتج عن نقطة التحول التاريخي التي نعيشها تغييرات جذرية في الجغرافيا السياسية مما سيمحو دولا بكاملها عن الخريطة السياسية " هل يذكر أحد أنه كانت هناك دولة قوية اسمها بروسيا وكانت دولة عظمى حتى بضعة عقود قليلة من الآن " تلك الدولة انقرضت برمشة عين نتيجة الفوضى التي اندلعت في أوروبا في القرن الماضي وأعقبتها الحرب العالمية.
نعلم جميعا ما يمكن أن يقوله كثيرون حينما يقرأون هذا الكلام، وهو أن الأردن قوي ومتماسك ونحن نعلم أن وطننا قوي ومتماسك ولكننا أيضا لا نحب أن نخدع أنفسنا ووطننا ونحن نرى التداعيات التي تنعكس على وضع أمننا الوطني والقومي وعلى العمق الجغرافي الإستراتيجي الذي تهشم تماما، وهذا يملي علينا كما أسلفنا أن لا ننكر الوضع حولنا وبيننا وأن نقوم بدراسة كل الثوابت الجديد " القليلة " والمتغيرات الجديدة " الكثيرة" حتى نتمكن من البقاء وصراع البقاء صعب ويحتاج إلى تخطيط ودهاء وصدق ونزاهة في التعامل مع الذات والغير، إنه سباق حواجز ويحتاج الى فرسان مهرة وخيول أصيلة .