لا تختلف مقاربة أحمد المغترب عن موقف المواطن محمود حيال استمرار احتقان المشهد السياسي الداخلي منذ أن فتح الرجلان اعينهما على الحياة واختارا البقاء خارج عالم السياسة. برأي المغترب والمواطن, فإن أجواء البيت السياسي الداخلي لم تتغير كثيرا عما عهداه منذ تخرجا من الجامعة الأردنية عام 1988 الأول قصد دبي وما زال يعمل هناك والثاني بقي في عمان لتأمين حاضر ومستقبل أولاده من خلال الاستثمار في التعليم في زمن العولمة.
الصراع ما فتئ يحتدم بين طبقة الكريما السياسية من رجال "الخلف والسلف" حول النفوذ والمكاسب والمصالح على حساب بناء الوطن ودولة المواطنة والقانون والمساواة في الحقوق المدنية.
أجواء التنافر المعهود بين مراكز القرار الرئيسية, التي عاشها اهلوهم إبان فترة حكم الملك الراحل الحسين (1953-1999) ما زالت تتأرجح صعودا وهبوطا منذ اعتلاء الملك عبد الله الثاني العرش مع تنامي دور الأجهزة الامنية منذ بدء الفترة الانتقالية.
ما يزال الفساد المالي والاداري والسياسي ينخر بنيان الدولة وتتعمق ممارسات الخلط بين الموقع العام والبزنس في عصر الانفتاح الاقتصادي الذي بات فيه كل شيء قابلا للبيع, هذا ما يلحظه المغترب من دبي ويتابعه رفيقه الذي آثر الاستقرار في وطنه.
الملك الراحل نجح في الحفاظ على الكيان السياسي للدولة الأردنية من عواصف المنطقة السياسية متكئا إلى المناورة والحنكة والدبلوماسية التي تعمقت مع تراكم الخبرة والمراس. الملك الشاب عبدالله الثاني بنى على إرث والده السياسي, وبدأ رحلة تحديث وعصرنة الأردن على مختلف الأصعدة, متبعا اسلوبا ديناميكيا تتضح معالمه يوما بعد يوم.
في الوقت ذاته, يشتد الصراع بين رجال الأردن القديم والجديد حول التغيير بكل ما يحمل في طياته من سلبيات وايجابيات. ويلقي غياب حل القضية الفلسطينية منذ 1948 بظلاله على المشهد الداخلي في مملكة نصف سكانها على الاقل من اصول فلسطينية, غالبيتهم لم يحسم بعد أمر هويتهم السياسية بانتظار قيام دولتهم وحصولهم على حق العودة والتعويض.
برأي أحمد ومحمود, نجح الأردن في حماية كيانه السياسي. لكنه ظل بعيدا عن بناء دولة حديثة تجمع ولا تفرق, على أساس الالتزام بالدستور وبتطبيق القانون على الجميع من متنفذين وغلابى.
ويستمر التشويش وضبابية المشهد. تتجلى مساحة تشارك الصفات بين رجال العهدين, ويظهر حجم العبء الذي يشكلونه على مؤسسة العرش, التي ترتقي- عرفا ودستوريا- فوق الصراعات المحلية لأن خيمة الهاشميين لكل الاردنيين وصمام امان البلاد والعباد.
يقول أحمد ومحمود إن رجال "الأردن القديم" بمن فيهم رؤساء وزارات والمحسوبون عليهم من وزراء ومعاونين يدعّون بأنهم "محافظون", وأنهم "يحافظون على مصلحة النظام و الهوية الوطنية وعلى حقوق الناس في حياة كريمة".
لكن غالبية الساسة القدماء فقدوا مصداقيتهم في مجتمع جربّهم في السابق. بعضهم صنف شعبيا في خانة الفاسدين او المفسدين, وكان الهم العام في ذيل لائحة أولوياتهم. منهم من مدّ نفوذه من خلال مفهوم الدولة الراعية وكوّن ثروة من خلال صفقات حرب الخليج الأولى والثانية ومن الفرص التي وفرتها الاصلاحات الاقتصادية وبرامج الخصخصة التي انطلقت عام .1989 غالبية هذه الفئة, تعاني اليوم من "بطالة سياسية". ومنهم من يشعر بالغضب والحرج لأنه غير قادر على تلبية مطالب قواعده من بعثات وفرص عمل ليضمن استمرار نفوذه من خلال السلطة. ويصرون على أن المستفيد من ثمار عملية التنمية النخبوية هم الشرائح الغنية التي دخلت عالم بيع العقار والمضاربة في السوق المالية واستفادت من العولمة خلال السنوات الخمس الماضية تحديدا.
أما المجموعة المقابلة فيطلق عليها وصف "الليبرالية" نسبة إلى الرغبة في تحرير البلاد من القيود الاقتصادية, الاجتماعية, الثقافية وغيرها. في الوقت ذاته يتجه أتباع هذه المدرسة إلى نهج العولمة وما يعنيه ذلك من امتصاص جزء كبير من الهوية الوطنية التي يدافع عنها المخضرمون.
لكن غالبيتهم, بحسب أحمد ومحمود, أبعد ما يكونون عن الليبرالية وأقرب الى المحافظين. إذ يرفضون المحاسبة والعمل من خلال مؤسسات قائمة ويسعون للحصول على اكبر قدر من الحرية والتفرد في اتخاذ القرار. وغالبيتهم مع تشتيت الولاية العامة للحكومة, بخلاف الدستور, لتسريع عملية التغيير بسبب مقاومة رجال الأردن القديم وحزب البيروقراطية المتجذر.
يعمل الليبراليون من خلال طبقة سياسية اقتصادية نتجت عن عملية الهندسة الاجتماعية, ممن قطف ثمار العولمة, وعزّزت نفوذها من خلال جمع البلايين فأضحت تؤثر على القرار. الليبراليون يستمرون في سياسة تطويع القوانين لخدمة الواقع الجديد بما فيها تلزيم العطاءات كما فعل سلفهم. لكنهم أدخلوا مفاهيم جديدة منها تفويض أراضي الخزينة واستملاكات عنوانها المنفعة العامة, لكن سرعان ما تحولت إلى المنفعة الخاصة. شجعوا قيام مشاريع عقارية غامضة نفذت مع مطورين متمولين عربا- لا سيما خليجيين- أخذ بعضهم قروضا من بنوك محلية. وفي كل مرحلة كانت شبهات الفساد تتكرس وتتعمق حتى باتت اليوم تمس جميع المواقع..
استمرار الشحن بين رجال العهدين, وتراجع الثقة بين الدولة والمواطن خلال العقود الماضية, وفشل مشروع الاصلاح السياسي بعد قرار العودة إلى مسار الديمقراطية قبل عقدين, تداخل مع الانتهازية السياسية وتواتر شبهات الفساد وأحاديث عن افكار جديدة لبيع اصول الدولة, وتحديات الغذاء والطاقة العالمية التي ضربت الفقراء وبقايا الطبقة الوسطى بمفهومها التقليدي.
تلك الأجواء غطّت على الكثير من الانجازات التي تحققت خلال السنوات الماضية التي يصر أحمد ومحمود أنهم لم يلحظوها.
بعض هذه الانجازات سيحتاج الى المزيد من الوقت ليظهر تأثيره.
فالاقتصاد الكلي, بحسب التقديرات الرسمية, نما اكثر من ثلاث مرات كما حافظ على نسب نمو بمعدل ستة في المئة خلال السنوات الماضية. وانخفضت نسبة البطالة من 14.5 الى 13 في المئة. وتضاعفت القيمة السوقية للبورصة إلى 40 مليار دينار »ثلاثة امثال الناتج المحلي الإجمالي«, واتسعت قاعدة المتعاملين معها ونشأت طبقة جديدة من المهنيين والاداريين ممن تحتاجهم قطاعات حققت نموا سريعا كالاتصالات والخدمات. تغيرت في السياق آلية توسيع مكتسبات التنمية على الافراد. منح 2600 منزل لعائلات فقيرة خارج عمان, وتضاعفت اعداد المنتفعين من صندوق المعونة الوطنية الى حوالي 70.000 ونما معدل دخل الفرد من 1800 دولار الى 2800 دولار »مع ان هناك من يشكك بمرجعية الارقام المبنية على تعداد 2004 الاشكالي«.
لكن بعيدا عن لغة الأرقام, ظل بطيئا انعكاس النمو على الشرائح السكانية المتوسطة والفقيرة. بل ترك مفاعيل عكسية في عدة قطاعات, من منظور أحمد ومحمود.
ويرى المدافعون عن البرامج التنموية أن تغلغل التنمية في طبقات المجتمع يأخذ وقتا, بينما يشكّك آخرون في عدالة توزيع منافع التنمية, بعد سنوات من وضع خطط عرمرمية أعطت نتائج متواضعة.
المسار التعليمي ما زال طويلا ومحفوفا بالتحديات لكن هذا الجيل سيتخرج بعد ستة أو سبعة أعوام لتظهر النتائج في الجامعات وسوق العمل. عام ,2000 أدخلت مهارات الحاسوب واللغة الانجليزية من الصف الأول في المدارس الحكومية بهدف تحسين نوعية التعليم وتأمين مستقبل افضل ليس فقط لسكان عمان بل لسائر المحافظات وقرى ومخيمات الاردن.
هناك من يرجع الفجوة الديجيتالية والمالية بين طبقات المجتمع إلى فروق نوعية في مستوى التعليم.
الدعم السلعي بات يصل لمستحقيه من الفقراء بدل أن كان متاحا للجميع بمن فيهم الاغنياء. أطلقت شبكة أمان اجتماعي, ورفعت معاشات الموظفين وانفق 356 مليون دينار على مشاريع خاصة ببرامج التحول الاقتصادي والاجتماعي, وصممت مشاريع لصقل مهارات عمال غير مهرة في قطاعات جديدة توفر فرص عمل.
بالمقابل, تدل استطلاعات الرأي أن غالبية المواطنين لم يشعروا بتحسن في حياتهم المعيشية التي تراجعت نوعيتها بسبب "إرهاب" الغلاء وارتفاع نسب التضخم مع إزالة الدعم الحكومي عن معظم السلع ما عدا الحبوب.
الاسبوع الماضي ظهرت نتائج مسح جيوب الفقر الذي قامت به دائرة الاحصاءات العامة الذي اشار بوضوح الى ارتفاع خط الفقر المطلق الى 556 دينارا في عام 2006 بعد ان كان 506 دنانير في العام الذي سبقه. الله يستر من نتائج مسح 2007 و .2008
ويقول اقتصاديون ان برنامج التحول الاقتصادي مثلا فشل في تخفيف حدّة الفقر لانه صرف على مشاريع غير انتاجية. الجميع يتحدث عن تنام سريع للفجوة بين اصحاب الدخل المرتفع والفقراء. كلها مؤشرات تحمل مخاطر قادمة وسط ضعف الجبهة الاردنية.
الملك عبدالله الثاني لن يتوقف عن مسار التحديث الذي يريد لمصلحة الأردن رغم أجواء الترقب بانتظار تغيير متوقع بعد تداعيات الضجة حول أفكار "البيوعات" على خلفية شد قديم متجدد بين مراكز القرار.
فهو صاحب القرار المطلق وهو من يختار التوقيت والرسائل التي يريد توجيهها.
لكن الجدل الدائر العام يظهر انحيازا صوب نهج وسطي للتحديث مع ما يعنيه ذلك من مراعاة لمفهوم الدولة وأصول ادارتها. فالدولة في نهاية المطاف ليست قضية استثمار اقتصادي أو مسألة عرض وطلب. الدولة لها مهام اجتماعية يجب ان تمارسها, خصوصا في بلد كالاردن بسبب الفقر والبطالة والتحديات السياسية والديمغرافيه وطبيعة التركيبة السياسية والموروث القيمي المتجذر. لا بد من صياغة عقد اجتماعي جديد يحدّد واجبات ومسؤوليات الجميع. وهناك ضرورة لتغيير تدريجي في قانون الانتخابات والاتفاق على خطوط حمر في استراتيجية الدولة العليا تضمن امن واستقرار المملكة.
الدولة اليوم بحاجة الى الاصلاح والتجديد على الاصعدة كافة, خاصة مع تنامي المخاوف من الخطر الاسرائيلي القادم من الغرب بسبب انسداد افق التسوية السياسي.
والحكومة بحاجة الى استعادة ولايتها العامة كاملة كما يرسمها الدستور بينما يرسم الملك عبدالله الثاني الاستراتيجية العليا حتى تطبق أذرع الدولة رؤيته التحديثية بتناغم أكبر. وهناك ضرورة لتحديد ادوار كل من رئيس الوزراء ورئيس الديوان والمنظومة الأمنية في الأردن الجديد. فالبلد لم يعد يتحمل نشاز أوركسترا تعزف على اكثر من لحن.
عن العرب اليوم.