من عاش في زمننا هذا خمسين عاما وليس ثمانين كزهير بن ابي سلمى له الحق في أن يقول بأنه سئم تكاليف الحياة، ذلك لأنها باهظة، والمعنوي منها اضعاف المادي، فثمة تجارب يمنعنا من البوح بها امران اولهما الخجل وثانيهما عدم قابليتها للتصديق، اما الخجل فهو ذو صلة بالكبرياء الوطني اكثر من الكبرياء الشخصي .
واذا كان للغيبوبة بالمعنى العلمي درجات فالجهل كذلك ايضا، لكن اقصى مراحله هي ما نران الان، وهو السخرية من اية معرفة، ومن اطلقوا ذات يوم اسم الفلسفة على الثرثرة الجوفاء وقالوا لبعضهم لا تتفلسف علينا، قد يقدمون تعريفا للثقافة اقرب ما يكون الى المعجنات والحلويات وكيمياء الصابون!
في الماضي كان الجاهل يشعر بشيء من الخجل فيلوذ بالصّمت، وربما لهذا السّبب قيل اذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب، لكن سرعان ما اصبح للجهل قوة الزحف الجليدي ومن كان يخجل منه اصبح يزهو به .
ما تبقى اذن هو ان يتقدم المثقفون والعلماء والعارفون باعتذارات طالبين الصفح والعفو من هؤلاء الذين يكرهون الورد لأنه لا يطبخ كالبامياء . والذين رفعوا شعارا هو لا تفكر لها مدبّر، وما يقع من السماء تتلقاه الارض.
بدأت المفاضلة الخرقاء بين العلم والجهل منذ تكاثر عدد العاطلي عن العمل من خريجي الجامعات، واصبح من تسللوا من المدارس الى الشوارع يعيّرون زملائهم ممن اكملوا تعليمهم قائلين : انقعوا كتبكم ودفاتركم واشربوا عصيرها ! والأرجح ان التوجه الى التعليم بدأ كنمط انتاج بديل للارض وليس من اجل العلم ذاته، لهذا تراجعت العلوم الانسانية ومنها ما تم حذفه من الجامعات كعلم النفس والانثربولوجيا، ومن كانوا يسخرون ممن يدسون الفيزياء والكيمياء لأن قدرهم ان يصبحوا مدرسين لم يخطر ببالهم ان طالب الفيزياء قد يصبح اينشتاين آخر او زاخاروف آخر، وان طالب الكيمياء قد يفوز بجائزة نوبل او يخترع ما يُحدث انعطافا او ثورة كوبرنيكية في عصره ووطنه!
قد يكون للجهل درجات اربع كالغيبوبة، لكن اخطر مراحله هي تلك التي يتلاشى فيها الخجل، ثم تبدأ السخرية من المثقف والعالِم لأنهما كما كانت ام ميلر تقول له : هي صناعة فاصولياء من الطين !
ما نحن فيه وعليه كعرب هو حصاد هشيم الجهل، سواء كان افراطا تاريخيا او نتاج استراتيجية تجهيل مبرمج، اذ لا يمكن لأي كائن ان يصنع نفسه بنفسه ما نصنعه بأنفسنا الان الا اذا كان فاقد البصر والبصيرة معا، او اشبه بالقط الذي يلحس مبردا ويستمرىء مذاق دمه حتى الهلاك !
الدستور