أظن أن الاختلافات الوطنية العميقة حول السياسة الاقتصادية الداخلية، ومحركات السياسة الخارجية، وصلت إلى مرحلة يمكن أن أصفها بالحاسمة ، وشكلت قناعتين، الأولى: أننا أخفقنا في وضع برنامج وطني للسياسة الاقتصادية يراعي دور الدولة التاريخي (دولة الرعاية)، والأخرى: ان الرهان على الإدارة الأميركية في إقامة دولة فلسطينية، فشل، وبتنا أمام استحقاق مواجهة حتمية "للخيار الأردني".هذان الأمران، بما يلحق بهما من إشكاليات اقتصادية واجتماعية ويطرحا أسئلة وجودية وسياسية، أظن يقينا أنهما يفرضان على المسؤولين بمستويات عالية وقفة واستدارة إلى العمقين الوطني والعربي، بالنظر إلى الكلف الصعبة التي أفرزتها السياسة الاقتصادية، وبما يلحق بهما من خشية على مستقبل الوطن واختلاف وجهات النظر على كيفية حمايته نتيجة لحجم المأزق الذي سيواجهه أمام فشل "حل الدولتين".
وهي استدارة، بتقديري، تستدعي توسيع هامش المسافة بين الموقف الوطني الأردني والسياسة الأميركية- الإسرائيلية من قضايا المنطقة لأن التناقض بين الموقفين، أو بدقة بين المصلحتين، أنكشف على حقيقة أن الإدارتين الأميركية والإسرائيلية لا تأخذان مصالح الأردن ككيان بعين الاعتبار.
وإلاّ كيف نفسر إدارة الرئيس الأميركي الموشك على الرحيل (جورج بوش) ظهره لحل الدولتين وهو يدرك تماما أن زوال هذا الحل يعني وضع خيار "الوطن البديل" على الطاولة، وهو عمليا خيار مطروح منذ إقامة الكيان على أرض فلسطين.
إن أي دور يفرض على الأردن لعبه في أراضي السلطة الفلسطينية، بقناعتي، مغامرة غير محسوبة، وأحسب أن صانع القرار لن يقبل بها، وهو الذي شدد في كل مناسبة ان إقامة الدولة الفلسطينية مسألة لا تقبل الجدل أو المساومة.
ولا نريد أن نوظف "ذهنية المؤامرة" لنقول أن الأزمة الاقتصادية الداخلية تتفاقم بفعل خارجي ربما تكون مرتبطة بفرض حل مزدوج جوهره حل القضية الفلسطينية على حساب الأردن مقدمة لحل أزمة الأردن الاقتصادية.
قلنا ، لن نقبل بهذا المنطق وسندعه جانبا، لنقول: صحيح ان الأزمة الاقتصادية تتفاقم بفعل ارتفاع أسعار البترول عالميا والذي أنعكس ارتفاعا في أسعار الغذاء، لكن للأزمة وجه آخر أساسه أننا انتهجنا سياسة اقتصادية "السوق المفتوح" بدون ضوابط وبعنا كل مؤسسة ناجحة كانت رافدا للخزينة ووصلنا إلى بيع كل شيء تقريبا بما فيها ذات الرمزية.
إن الاستسلام إلى وصفات صندوق النقد والبنك الدوليين أوصل إلى فقدان الدولة روافدها المالية وحتى دورها في توجيه الاقتصاد، فزاد الفقراء فقرا وزحفت الطبقة الوسطى لتنظم إلى الطبقة المعدمة وأصبحت الامور بلا دور جوهري.
اننا أمام تداعيات سياسية وأمنية تعصف في المنطقة، والأردن في قلبها، فما يجري في العراق وفلسطين ولبنان وما يُعد لسورية وإيران أمور تمسنا مباشرة، ونتعايش معها ونحن امام انعدام الثقة بين المواطن والمسؤول ، ومخاطر الفقر ، والاختلاف على السياسات ببعديها الداخلي والخارجي.
وكلها ظروف تستدعي استدارة إلى ( داخل الوطن ) لإعادة صياغة العلاقات مع القاعدة الاجتماعية ببناء جسور الثقة وتوسيع هامش الحرية ووقف التفريط شبه المجاني بمقدرات الوطن ورمزيتها والبحث عن روافع وطنية حقيقة يقبلها الناس ويثقون بها وتكون من صلب الوطن.
ونحتاج ايضاً إلى استدارة جدية إلى ( العمق العربي ) وذلك بإعادة بناء العلاقات وتعظيم المصالح المشتركة والتوصل إلى تفاهمات تفضي إلى حل القضايا الخلافية وتجاوز الحساسيات السياسية، وعلينا ان نطور خطابا مشتركا كأردنيين وفلسطينيين، رسميا وشعبيا، لنواجه معا خطر زوال حل الدولتين ونجابه معا الوطن البديل.
إن ذلك كله يشكل ضمانة حقيقة للأردن ومستقبله، بدل مواجهة الاستحقاقات منفردين بلا حواضن وطنية وعمق عربي.