الإيمان أمر محبب إلى النفس
د.رحيل الغرايبة
15-01-2016 02:30 AM
الإيمان أمر محبب إلى النفوس وقريب منها، ويستجيب لأشواق الفطرة لديها، ويبعث على ملئها بالرضى والطمأنينة والسكينة، ويدعو إلى تبني كل ما يجلب سعادتها، ويحقق أمنها واستقرارها، ويطلب من الإنسان أن يكون متصالحاً مع نفسه ومع الوالدين والأقربين والجيران، ومتصالحاً مع الكون بكل موجوداته، ولذلك لا يكون الإكراه طريقاً للايمان مطلقاً، فلا طريق له إلاّ من خلال القناعة التي تملأ الوجدان وتبهر العقل وتمازج بشاشة القلب بمنتهى الحبور والبشر والسرور.
وفي الوقت نفسه الإيمان ينفي الشقاء والتكليف فوق الطاقة، ولا يفرض على الإنسان أن يتقرب إلى الله بتعذيب نفسه وإعناتها، ويدعو إلى عدم كبتها وقهرها، ولذلك جاء القرآن ليقول في محكم تنزيله : «طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى»، وجاء في موضع آخر قوله تعالى : «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ»، وجاء في حديث عن الرسول عليه الصلاة والسلام قوله : « اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْجُبْنِ وَالْبُخْلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ، وَقَهْرِ الرِّجَالِ»، وقد رأى الرسول صلى الله عليه وسلم مرة صحابياً يدعى (أبو اسرائيل) واقفاً في الشمس، وطال وقوفه، فسأل الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه ما بال أبي اسرائيل؟ فقالوا له : نذر أن يقف بالشمس ولا يجلس ولا يستظل ولا يكلم الناس ولا يأكل ولا يشرب، فقال الرسول لهم: مروه فليجلس وليستظل وليكلم الناس وليتم صومه، مما يدل دلالة واضحة أن الشرع ينفي الحرج والمشقة والعنت، والآية واضحة الدلالة وهي تشكل قاعدة في هذا المجال: «وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ».
تأتي هذه المقدمة في سياق الرد على بعض الدعاة أو الفئات من غير الفقهاء ولا العلماء الذين يحاولون أن يقدموا الإيمان على أنه عبارة عن مجموعة تكاليف شاقة، وتعليمات شرطية مشددة وأوامر صارمة، خالية من الروح وبعيدة عن جوهر العلاقة مع الله القائمة على الحب والرضى والتوكل والرحمة، ويأتي في هذا السياق موضوع «اللباس» الذي ينظر إليه أنه عبارة عن كبتٍ وقهرٍ وعنتٍ ومشقةٍ وقبح، ويأتي الالتزام به في سياق هذه الفلسفة المقيتة المظلمة المغلوطة.
اللباس في نظر الإسلام جمال وزينة وذوق، ويستجيب لأشواق النفس الفطرية، حتى يظهر الإنسان في أحسن الصور وأجملها، ولذلك يقول الله تعالى : «يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ»، والمعنى الأكثر اتفاقاً عند العلماء والمفسرين لكلمة الزينة هو «اللباس»، وقال أيضاً: «يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً» فجاء اللباس ليغطي ما قبح من الإنسان وهو السوءة، ويظهره في الصورة التامة التي تقوم على معنى الستر والحشمة الممزوجة بالحسن والزينة والجمال.
ولذلك وضع الإسلام في هذا السياق معايير عامة تتلخص بأن يكون اللباس ساتراً وفضفاضاً، لا يصف ولا يشفّ، بمعنى أن تدور المعايير حول الحشمة المنسجمة مع الذوق العام الذي صقله الإيمان وهذبه، وتختلف الشعوب والأمم بعد ذلك في تمثل هذه المعايير،»يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ ? وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا»، واللباس في الإسلام ليس هو الحجاب بالمناسبة، وإنما الحجاب هو الساتر الذي ضرب على نساء النبي خاصة ليتم الخطاب معهن من خلفه، ولا علاقة لهذا المصطلح بلباس المرأة المسلمة.
أراد الإسلام أن يجعل الشخصية الإسلامية شخصية مميزة لها هويتها الحضارية ولها معالمها الثقافية التي تظهر في معايير الحسن والقبح، ومعايير الذوق والجمال، ولذلك إذا أردت أن أعبر عن رأيي الشخصي في هذا الموضوع فإني أقول على وجه الحقيقة أن اللباس الساتر الطويل الفضفاض أجمل وأروع وأقرب إلى الذوق من التكشف وإبراز المفاتن والعورات، واللباس الضيق المجسم الذي لا يضيف جمالاً وإنما يأتي من باب تتبع الموضات والموديلات الأجنبية، ولذلك فإن الشيطان عمد أولاً في إغوائه لآدم وحواء في الجنة عن طريق التكشف وإبراز السوءات،» فطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة «استجابة للفطرة المركوزة في النفس المجبولة على حب الستر والحشمة المقترن بالجمال والذوق الرفيع.
تجري المنافسة بين الأمم والشعوب في محاولة إبراز معالم ثقافتها ومظاهر هويتها الحضارية، من خلال طراز اللباس والطعام وغيرها، ومن خلال إرساء معايير جديدة مشتقة من فلسفتها وثقافتها، والأمة الإسلامية رغم ضعفها في العصر الحاضر إلّا أنها تملك معايير ذوقية في التعبير عن الجمال مشتق من منظومة القيم الإيمانية المحببة والقريبة من النفس السوية والطبع السليم.
الدستور