الشّاعر عيسى القنصل .. قصّةُ عشقٍ ومرايا مُهشَّمَة
هيا منير كلداني
12-01-2016 02:11 PM
حين يأتي اسمُ عيسى القنصل، يتذكّرُ كلُّ من قرأ قصائدَهُ مدينتَه- مادبا-، ويستلهمونَ ذلكَ العشق والحنين المستمرّ إلى ذكرياتِ طفولةٍ بريئةٍ خاليةٍ من بردِ الحاضِرِ الجافّ من دفءِ الحياةِ الصادقة. كما ويرونَه اليومَ في دهاليز القصصِ القصيرةِ في "مرايا مهشّمة" حيث نرى وجهاً آخر لـ عيسى في ثنائيةٍ أدبيةٍ قَلّما نجدُ لها مثيلاً هذه الأيام. فالشعرُ خيالٌ وعاطفةٌ والقصةُ سردٌ وحوارٌ لواقعٍ تصويريٍّ لحادثةٍ ما تركتْ في نفسِهِ أثراً معيّناً ورفضتْ أن تُتركَ للنسيان.
قصصُ عيسى الإحدى عشرةَ لها ارتباطٌ في الواقعِ اليوميّ الذي نعيشُ فيه ويمرُّ بِنا في الشارعِ والبيتِ والعمل، وفيها يمسكُ الكاتبُ بأيدينا ويتمشّى معنا في أروقةٍ وحاراتٍ في تاريخِنا المُعاصرِ يكاد يلفُّها النسيان: كما في قصّةِ "الزبّال" والتي تحكي قصةَ ذلكَ الرجل الفلسطينيّ الذي أجبرتْهُ الحربُ على الهروبِ من مدينتِه/ أريحا إلى شوارعِ عمان، ويستعرضُ صراعَه للبقاءِ كزبّال حتى عودتِهِ الى مزاولَةِ عملِهِ الأصليّ كبائعِ فلافل لولا خذلانُ الواقعِ العربيِّ له، أو في قصّةِ "موعدٌ مع الفرح" والتي تصوّرُ حالةَ الأمِّ الفلسطينيةِ بعد الهزيمةِ العربيةِ سنةَ ١٩٦٧- وكيف أنّها أرسلتْ لابنِها دعوةً بالرجوع ليكونَ فدائياً.
في قصصِ عيسى حركةٌ دائمةٌ لربطِ الأحداثِ وحسٌّ وانفعالٌ انسانيٌّ جميلٌ وراقٍ- كما في قصّة " الموت في جسدي" والتي يُميطُ فيها اللثامَ عن العجزِ الجنسيِّ كواقعٍ يخجلُ الكثيرونَ من الحديثِ عنه، وفيها يتحدثُ عن هزيمةِ الرجولةِ في العالمِ العربيّ. وقد نالتْ إعجابَ مجلةَ "العربي" الكويتية قبلَ عقودٍ ونُشِرتْ فيها.
قصصُ عيسى هي تصويرٌ حقيقيٌّ لمشاعرِ الإنسانِ الذي يبحثُ عن سرِّ الصراعِ الإنسانيِّ كقصّةِ "المنجّم"- ذلك الإنسانُ البسيطُ الذي يؤمنُ بالسحرِ لحلِّ جميعِ المشاكلِ لدرجةِ اقتناعِهِ الشديدِ بأنَّ هذا السحرَ لهُ شيطانٌ قادرٌ على ارتكابِ جرائمِ قتلٍ لبعضِ زبائنِ الفندقِ الذي يعملُ به.
تمكّنَ عيسى القنصل من التنقّلِ بين الحدثِ العامّ المحيطِ والحدثِ الخاصّ بعبقريةٍ تجعلُ القارئَ ينسى الحدَّ الفاصلَ بينَ الواقعَين، ولا سيّما في تلك التي تعرّضتْ لفترةِ النكسة وما تلاها- كما في قصّة "الوجهُ الضائع" والتي نقلَنا فيها إلى صراعِهِ الحادِّ مع الحياةِ وتحطُّمِ أوّلِ قصّةِ حبّ أمامَ النكسة.
وذلك لم يأتِ من فراغ، فقد تركَ كاتبُنا الفذّ مدينتَه/ مادبا ليعملَ في بيت لحم في قطاعِ الفنادق. ولكنّ الأقدارَ شاءتْ أنْ يكونَ في دمشق لأداءِ الامتحاناتِ الجامعيةِ حيثُ كان يدرسُ عندما سقطتْ بيت لحم. وبسببِ الاحتلال، لم يستطعِ العودةَ إلى المدينةِ المقدّسةِ فكتبَ العديدَ من القصصِ متأثراً بالحربِ والهزيمةِ والأمل.
سحر - بائعُ الكعك - ليلى المادبية -انتحارُ صديق- الوجهُ الضائع- التابوت- موعدٌّ مع الفرح - الحاجز- الزبّال - المنجّم - الموتُ في جسدي.. كلّها قصصٌ حيّةٌ تشدّنا للقراءةِ والتأمّلِ وتنادي الإنسانَ فينا.
أمّا عيسى القنصل الشاعرُ فلا يقلُّ عظَمةً عن ذلك القاصّ، ففي شعرِهِ عاطفةٌ وخيالٌ ورقّةٌ وإحساسٌ تتجسدُ في كلماتِهِ المرتجفةِ شوقاً وحبّاً إلى مدينتِهِ/ مادبا، والتي انثالتْ لها عاطفتُهُ وذاكرتُهُ من مكانِه القصيّ في غربتِهِ الطويلةِ في الولايات المتحدة.
عيسى القنصل الذي يلمسُ ويبكي وجعَ الآخرين، نقرأ له الآنَ أشعاراً لقلبٍ ينبضُ حزناً لرحيلِ حبيبتِه ورفيقةِ دربِهِ/ نهاد، والتي رحلتْ بعد أن حاصرتْها ولم ترحمْها مياهُ الفيضان.
في مجموعته القصصية "مرايا مهشّمة"، كتبَ الشاعرُ والقاصُّ عيسى القنصل هذه الكلماتِ في صفحةِ الإهداء:
إلى حبّي الأبديّ نهاد، التي رحلتْ بينما كان هذا الكتابُ تحتَ الطّبع،
"مرايا مهّشمة " اِجمعيها هناكَ وحوّليها بيديكِ إلى بحيرةٍ من عِطر.
عيسى القنصل، يا من طرّزْتَ لنا بكلماتِكَ شالاتٍ من الفرحِ والحزنِ والأملِ والألم، وحَكَيتَ حين أُريدَ للمثقفِ أن يصمتَ، وصَمَتّ حين أُريدَ له أن يحكي،
شكرا لك! فأنا الآن- وإذ أضعُ شالاً أهديتَني إيّاه- أمشي في شوارعِ غُربتي وأنا أعرفُ أنّني صرتُ أجمل..
* الكاتبة أردنية تقيم في استراليا