وصمة عار على جبين هؤلاء .. !
حسين الرواشدة
10-01-2016 02:20 AM
ما حدث في بلدة "مضايا" السورية كان وصمة عار في جبين الانسانية، اذ لا يمكن لانسان - اي انسان - ان يقبل مأساة آلاف الضحايا الابرياء الذين حاصرتهم قوات النظام وميليشيات حزب الله، ومنعوا عنهم ابسط مقومات الحياة لاكثر من سبعة شهور، وحين لم يجدوا ما يأكلونه لجأوا الى الاعشاب واوراق الشجر والقمامة، حتى انتهت، فداهمهم الجوع وانتزع من وجوههم واجسادهم صورة “الانسان” التي نعرفها: بعضهم لم يستطع الصمود في وجه الجوع الكافر فمات، وبعضهم ذاق طعم الموت عشرات المرات، والباقون تحولوا الى اشباح وهياكل عظمية.
القصص التي وردت الينا من “البلدة” المنكوبة كانت فاجعة وصادمة، لكن ابشع ما كشفته هو الوجه القبيح لهؤلاء الذين يتاجرون بالدين والمقاومة والممانعة، اذ قايضوا الناس هناك على جوعهم بالخروج في مظاهرة لتأييد النظام ثم بتسليم الاسلحة التي بحوزتهم وحين لم يجدوا اي سلاح قايضوهم مرة اخرى على دفع ما يملكونه مقابل رغيف خبز او حبة دواء، ولما تأكدوا انه لم يبق لديهم اي شيء لابتزازهم ومقايضتهم عليه، قطعوا الاشجار واحرقوا المزروعات ثم فرضوا عليهم الحصار ومنعوا عنهم المساعدات، وهم ارادوا من ذلك ان ينتقموا من هذه البلدة التي افتتح ابناؤها باب الثورة ضد النظام، وان يبعثوا برسالة لكل البلدات الاخرى ان مصيرها سيكون مثل مصير “مضايا” اذا لم يستسلم سكانها للنظام ويرسلوا ابناءهم للقتال في صفوفة.
ما فعله النظام السوري ومعه حزب الله ليس جديدا ولا مفاجئا، فقد تعمدوا عدم تنفيذ الهدنة التي ابرمت( برعاية الامم المتحدة ) بينهم وبين التنظيمات التي تتواجد في هذه البلدة، ومن اهم شروطها رفع الحصار والسماح بمرور المساعدات، كما ان ايديهم تلوثت على مدى السنوات الماضية بدماء مئات الالاف من السوريين، ولن ينسى التاريخ ان يسجل بمداد من “عار” هذا الذي فعلوه، لكن الكارثة هي ان الذين ما زالوا يصفقون لصمود الممانعة ويحتفون بروسيا “المحررة” ظلوا صامتين ولم تهتز ضمائرهم لجريمة الابادة هذه، مع انهم اصمّوا آذاننا باناشيدهم عن الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان.
اي مقاومة هذه التي ينام ضميرها على مشهد اطفال يموتون من الجوع، واي ممانعة هذه التي ترقص على اشلاء وجثث واجساد اطفال ونساء لا ذنب لهم سوى انهم صمدوا في بيوتهم، ورفضوا ان ينزحوا منها مرة اخرى ليحتلها “وافدون” من مذاهب وطوائف غريبة عنهم، واي مثقف عربي “محترم” يمكن ان يسمح لصوته ان يكون اجيرا في سوق القتل والتجويع، ثم يدافع عن نظام يتعمد قتل شعبه بهذه الصورة البشعة، حتى لو صدقنا كذبة “المؤامرة “ الكونية التي يتذرع بها هؤلاء الابناء المستأجرون ..؟
ما جرى في “مضايا” واخواتها في غوطة دمشق، ليس مجرد جريمة ارتكبها النظام واعوانه وحلفاؤه، وانما عار على جبين كل الذين صمتوا على جرائمه، او صفقوا لصمودة وانتصاراته (!)، وعلى جبين العالم الذي لم يتحرك لاغاثة المحاصرين ووقف حمام الدم الذي يرتكبه النظام ضد شعبه، وعلى جبين “امة العرب والمسلمين” التي اغلقت حدودها امام اللاجئين الذين اخرجوا من ديارهم بحثا عن ملاذات آمنة، او تأخرت عن تقديم وجبة طعام تسد جوع امعائهم الخاوية.
حين ندقق بما حدث في “ مضايا” باعتبارها اخر نسخة من الجرائم التي تقشعر لها الأبدان، سواء على صعيد (القتل) بالاسيد والبراميل او بالتجويع والتركيع، نكتشف أن (أجيالاً) كاملة من الضحايا واللاجئين والمشردين قد ولدوا و(تربوا) وتشكل وعيهم في ظروف قاسية جداً، وبالتالي فإن ذاكرتهم ممتلئة بصور الحروب والصراعات ومجروحة من آثار الفقر والجوع الحرمان، وهؤلاء الذين خرجوا من رحم (المحن) والكراهية لا يمكن ان يتحولوا إلى (رسل سلام)، مادام ان القتلة والجلادين الذين لقنوهم مثل هذه الدروس جالسين في مقاعدهم أمام نظر العالم الذي لم تتحرك ضمائره لادانة المعتدي أو الأخذ على يديه.
اذا، سنكون على موعد بانتظار (أطفال) ينسلون من رحم “مضايا” والغوطة ودرعا وحمص، ومن الرمادي والانبار، ومن عدن وصنعاء، من “ ارحام” كل المجازر والقتل على الهوية ومن قوارب اللجوء التي غرقت او لم تغرق، ومن أجيال الغاضبين والناقمين، ومن مجتمعات تشكلت في أتون الحروب والصراعات والحصارات، سواء بسبب المحتل الوطني أو الآخر الأجنبي، حيث القتل هو القتل، والظلم هو الظلم، والتواطؤ والصمت له معنى واحد، ثم سنكتشف أن هؤلاء هم جيل المستقبل / مستقبلنا، ثم سنكتشف ان الخرائط التي نراها اليوم ترسم في عالمنا العربي على حدود (التجويع والتركيع)، ليست أكثر من (نسخ) محسنة لخرائط أبشع قادمة، ولثورات واحتجاجات لا نعرف متى تبدأ وإلى أين تنتهي، ولحروب طاحنة لا تختلف عما شهدته غيرنا من الدول.
الدستور