ما كان للنهار أن يتبارك من دون رؤيتها الصباحية، ومن دون دعواتها التي تنفتح لصدقها السموات. كانت تكرر دعاءها للعلي:"روح يا موسى يا بن نعيمة، الله يعطيك حتى يرضيك". وكنت وأنا أغُذّ السير في الوعثاء من مخيم الحسين باتجاه مدارس الوكالة بجبل النزهة أتأمل دعوة "خضرة"؛ جارتنا في أسفل الشارع، وأروح أرد لها الدعوة في سري مبتهلا:"روحي يا أم العبدالله يعطيكي حتى يرضيكي".وكانت "أم العبد" تشتهر بمعرفتها بالأخبار حال وقوعها، وخصوصا تلك المتصلة بالموت. فبينما يكون "عزرائيل" يرفرف بجناحه الأخطبوطي ويهمّ بنزع روح الكائن، كانت "خضرة" معه على الخط تماما، فما إنْ ينفث المستهدف بالموت نزعه الأخير، حتى يكون النبأ في حوزة
"أم العبد" التي تشرع في بثه مباشرة على الهواء. ونادرا ما ضُربت بخبر أو أخطأ تقديرها.
وما يعلق في ذهني من سيرة "خضرة"، التي كان لها ثلاثة أبناء وبنت، وكان ولدها البكر عبدالرحمن يصغرني بنحو سنتين، هو تشبثها المضني بالحياة وحبها المتفاني لأن ترى يوما قريبا يكبر فيه الأبناء وترقص بكل خفتها في عرس عبدالرحمن ويتورّد خداها المأهولان بالتفاح كما كان يجري كلما سرت إمارات البهجة في عروقها.
وكان حلم "أم العبد" أن تبني منزلا إسمنتيا يمحو ذكريات بيت الزينكو المتداعي الذي تنخره الأمطار في الشتاء، ويهدده السيل بالجرف والإمحاء.
وأدركتُ، فيما أدركت، مع طول الخبرة والمعايشة أن أحد أسرار تعلق "خضرة" بأمي هو ربما تضامنها مع آلامها، لا سيما وأن لأمي أسبقية في الترمّل على "خضرة" بأكثر من عشر سنوات ما برحت خلالها "خضرة" تداوي بكلامها الطيب وزياراتها المتواصلة جرح أمي حتى أبتليت "خضرة" بالمصيبة ذاتها، فراحت أمي تردّ لها الجميل بمقدار ما كانت تفعل وأكثر قليلا.
ورغم أن زوج "خضرة" لم يكن يعيل الأسرة كما ينبغي بسبب اعتلاله وفقره الأبدي، إلا أن موته أثقل كاهل "أم العبد"، فأضحت مهمومة، مشغولة البال، ساهمة على الأغلب تحدق في البعيد.
بيْد أن هذه الحال لم تمنع "خضرة" من إشاعة الفرح في حارتنا. وكنت رأيتها، حينما نجحتُ في "التوجيهي" تزغرد وترقص وتدعو النساء وصبايا الحارة الخجولات للرقص معها. ثم غابت لوهلة، وعادت ومعها كيس ورقي محشو بالملبس "الحامض حلو" وراحت تنثره في الهواء، فيتدافع الصغار لالتقاط ما تيسر، في احتفال كانت "خضرة" ألمع ما فيه وأنصع ما يشعّ في ذاكرتي من ذلك الحدث الذي مضى عليه أربعة وعشرون عاما.
وتبرق "خضرة" في وجداني كل حين رمزا للكفاح، وعشق الحياة، والتحدي. كانت تتمتع بطاقة جبارة على هزيمة المستحيل، وترويض كل صعب. وما فتئتُ أتأملُ حركيتها وأصاب بالدهشة، لأن تطلعاتها كانت منسوجة بخيوط الأمل والانتظار.
انتظار ماذا؟!
انتظار أن يكبر الأبناء: خليل وإبراهيم وعبدالرحمن، وأن تتزوج إنعام، وأن تسكن العائلة منزلا إسمنتيا في المخيم أو خارجه، لا فرق. المهم أن يكون إسمنتيا. وكانت "خضرة" في انتظار أن ترقص في عرس عبدالرحمن، وأن تدعو لحفلته مطرب المخيم الشهير آنذاك "إبراهيم خليفة"، وأن توزع في عرس نجلها البكر "مطبقانيات" مليئة بالحلوى ومزينة بكشاكش لم تشهدها الحارة من قبل.
بيْد أن السرطان كان لـ"خضرة" بالمرصاد، فنكّل بأحلامها. وبسرعة البرق، راح ينهش جسدها القليل، كأنه في سباق محموم لقتل حلم "خضرة"، لأنه، في تسارعه المجنون، لم يمهلها لحظة لتتأمل حصادها الذي أفنت في رعايته خمسة وخمسين عاما.
لم يقيّض لـ"خضرة" أن تقطف ولو ثمرة واحدة من بستان العمر المأمول.
قتل السرطان "خضرة"، بعدما ظلت توصي أحباءها وجيرانها: "ديروا بالكم على الأولاد".. "إعملوا لعبد عرس تحكي عنه كل الناس، وأوعوا ما ترقصوا فيه"...
...لا أقوى على المضي في الكتابة في هذه اللحظة رغم غزارة التفاصيل. سأتوقف ها هنا، معذرة، فلقد شرعت في البكاء...
mussaben@hotmail.com
الغد.