كيف استطيع ان اجعل احدا في الدنيا يتخيل معنى ان استيقظ صباح كل يوم دون ان ارى وجهاً ملائكياً يحب فقط لأنه يحب ويعطي فقط لاجل العطاء دون ان يطلب اي مقابل بل ان المقابل الوحيد الذي يطلبه او يصنع المستحيل من اجله هو ان يبقى يرى الابتسامة على وجهك..
ربما يستطيع احد من الذين فقدوا امهاتهم ان يصل بإحساسه لعمق الالم والوجع الذي اكتب عنه بفقد امي رحمها الله، لكنني على يقين بان ثمة شيئاً بعيداً وعميقاً لوجع ابلغ من ان يكتب على ورق او يوصف بكلمات ذلك هو حجم الفقد الذي اعيشه وربما شعرت بصعوبة ان اصف يوما واحدا بلا امي فكيف لي ان اصف عاماً كاملاً مررت بتفاصيل كثيرة فيه وفي كل لحظه تمنيت ان اعود وارتمي على صدرها او ان امسك بيديها او ان اسمع منها كلمة "هلا يمه" التي تخترق السمع الى ابعد مكان في القلب او ان تجد اسمها على هاتفك برنة الاطمئنان الدائم على مدار اليوم حتى عودتي الى البيت، ربما ان حالة التعلق تلك هي من يجعل الامر صعبا على ابن يكتب عن امه بعد عام من رحيلها.
في السنوات الأخيرة وتحديدا بعد ان بلغت الثلاثين من العمر بدأت ادرك اي حكمة تتمتع بها امي حيث اصبحت انتظر كلامها باي شيء قبل ان اعلن ردة فعلي وهي التي كانت قد عودتني بان تكون آخر المتحدثين كي تستمع اكثر قبل ان تتحدث قليلا ، في تلك الاثناء بدأت فعلا ادرك حجم ام مثل امي الامر الذي جعل تعلقي العظيم بها اصلا يزيد اكثر نظرا لعلاقة ليست عادية يستحيل وصف تفاصيلها الصغيرة والكبيرة في مقال صغير كهذا و هذا التعلق الذي يمكن تخيله من درجة التأثير التي احدثتها شخصية امي بي لشخصية صبي يتحول خلال سني عمره من اقصى درجات المشاكسة الى اقصى درجات الهدوء والبحث الدائم عن الحكمة، ولعل لغة الالم التي جمعتني اكثر بأمي منذ حداثة سني حيث كنت الاقرب لها ولابي لأنني مررت بمراحل كثيرة من حوادث كسور واوجاع جعلتني زائرا مستمرا لأقسام العظام في مستشفيات المفرق والزرقاء وبالتأكيد كانت امي المرافق الدائم لي من هنا كان حجم تعلقي بها او تأثري بها الذي بدا ينعكس على شخصيتي شيئا فشيئا كلما كبرت، كانت هي من يدفعني للتميز والابداع وكانت تحفزني كثيرا بكلامها عني او بالأحرى نبوءاتها عني لشخصية قيادية ولدت بي و بدأت تكبر اولا بأول وحتى بالشعر اكاد اجزم ان احساسها العميق بالأشياء ضاعف موهبتي في كتابة الشعر حيث اخذت عنها هذا الاحساس المَجّمل لكل شيء حولك حتى وان كان غيرك لا يرى فيه اي جمال يذكر.
رحيل ابي قبل امي باقل من عام كسر ذلك الحاجز الذي كان يقف بيني وبين الموت فقد صرت اعرف الموت جيد واستطيع ان اصف ملامحه على وجوه من يستعدون للموت، قبل رحيل امي بأشهر ادركت ان امي فعلا تستعد للرحيل وقد اخبرتني بذلك ، كانت توصيني بأشياء كثيره تخصني وتخص اخوتي واخواتي، اكثر ما يمكن ان اوصف به امي في ايام مرضها الأخيرة بان ثمة امرأة غير عادية في الشجاعة تواجه الموت بابتسامة تخترق قلوبنا ولعل سبب تلك الابتسامة عندما ترى احدا من ابناءها وبناتها امام عينيها وربما ان ما بها من اوجاع كفيل بان يجعلها تصرخ بأعلى صوتها من شدة الالم لكنها لم تفعل حتى يغيّبها ذاك الألم عن الوعي وبعد ان تفتح عينيها مجددا تفاجئك بابتسامه كلما راتنا حولها.
في هذا الايام يمر العام الاول على رحيلها وثمة ما يجعل القلب اكثر حزنا بفقدها ثمة مرارة وغصة في النفس تمر بذكرها لتحبس الانفاس، كيف امضي بدونك يا امي وكيف اكمل هذا المشوار الذي بداته من اجلك انتِ وابي لأرى والمس فرحة قلوبكم لي بكل نجاح احققه، اه يا امي وانتِ الان في قبرك تجاورين ابي اعلمي يا امي ان روحك الطاهرة تعيش بي كما تعيش روح ابي، اه يا امي مرت علينا الايام بدونكما لم اشعر ببهجة الاعياد ولا حتى جمعات الاحبه التي ستبقى ناقصة بدونك مثل كل الافراح التي ستبقى ناقصة وجودك تعلمين انني اذهب كل يوم جمعه لأجلس عن قبريكما انتِ وابي علني التمس شيئا من ذلك النقص فكم هو صعب يا امي ان اعود من صلاة يوم الجمعة ولا اجد احدا في البيت الذي كان عامرا بكما.
امي الحبيبة لعل في النفس كلمات لم تحكَ بعد وقصص لا استطيع روايتها او بالأحرى ان تلك الغصة بألم فقدك تحتاج لألاف الكلمات وان تلك الدمعة التي ما زالت حبيسة القلب واخالها ستبقى تروي ذلك القلب المجروح والمكسور بفقدك
امي الحبيبة لا طعم ولا لون ولا فرح للحياة بدون وجودك انتِ وابي، لقدر رحلتما مبكرا وتركتماني اقاسي هذه الحياه وحدي ، واليوم ادرك بعد رحيلكما معنى ان يمشي المرء في ساحة معركة هذه الحياه وظهره مكشوفا لأعدائه ، او ان يحاول احدا الابصار بلا عينين او ان يحاول الطيران بلا جناحين.
رحمك الله يا امي ورحم ابي ولعل في ذكراكما الطيبة ذلك البصيص من الامل الذي يجعلنا نكمل العيش بمراره والم و الحمد لله على كل حال .
Sad_damesr83@ahoo.com