من ذكريات الطفولة شيء أسمه بيت الفئران ، حيث غرفة مظلمة وأسراب من الفئران والجراذين جاهزة لنهش اللحم ومصمصة العظم حتى نخاعه . كان مجرد التلفظ بالكلمة يثير فينا هلعا كبيرا فيجبرنا على الانصياع لرغبات المُدرِّسة والجلوس في مقاعدنا خاشعين تبدو علينا علامات الذلة والمسكنة .بعد حين من الزمن ، وبعد أن تراكمت الخبرات واتصلنا بمن هم أكبر منا سنا في الصفوف المدرسية ، علمنا أن بيت الفئران قصة مُخْتَلَقة ، تُستخدَمُ فقط من أجل تهديدنا والضغط علينا كي نكون أولادا مسالمين . أدركَتْ عقولنا سخرية التهديد وفجاجته ، واستطعنا أن نتخلص من سطوة الكذبة وأن نرمي وراء ظهورنا كل ما كان ينتابنا من مشاعر الاشمئزاز والقشعريرة .
انه لأمر مثير للاهتمام ، كيف أن الكلام الأجوف الذي لا ينطوي على أي حقيقة في داخله يكون قادرا في أحيان كثيرة على أن يحجب منابع النور ويسد منافذ الهواء ويكبل عقولنا فيغرقها في لجة من الظلام والحيرة . حين يصبح الإنسان أُذُنا فقط ، فلا ريب أن تتقاذفه نوازع الغضب ، ويقع في حبائل الشك والريبة ، وينسى ما عليه من واجب أصيل تجاه نفسه والآخرين .
عالم الآذان هو نفسه عالم الثرثرة ، لا فرق بين العالمين إلا في اعتماد أحدهما على الآخر ، فالأذن المصغية لكل ما هب ودب بغض النظر عن قيمته ، تحول مدخلاتها إلى مخرجات ، وتكثر من الهذرمة وبناء الحكايات وتفسير الروايات ، وتكون النتيجة عالما من الضجيج يملأه التشويش وتسود منابرَهُ الحناجرُ الأقوى .
هل تريدون أن تعرفوا أين يقع عالم الآذان ؟ انه يقع في كل زمان ومكان تُخاطَبُ فيه غرائزك فقط ، وتُستثار فيه عواطفك بقصص وهمية ليس لها مستند على أرض الواقع . مشاعرك الوطنية مثال على ذلك ، فكلما وجدت من يبث فيك نفحة من غضب ليس لها داع ، أو يخوفك خطرا لا وجود له ، فاعلم أن المراد هو تحويلك إلى مجرد أذن ، وجرجرة عواطفك وطيبتك إلى منطقة لا تحمد عقباها . وكلما وجدت أسرابا من الأقلام تلوك قصة واحدة ، تعيدها مرارا وتكرارا ، وتطرحها للنقاش من زاوية تضع الأقلام نفسها فيها منافحة عن الفضيلة والوطنية ، فاعلم أن هذه الأقلام تثرثر وأنك لن ترى طحينا حتى لو جعجع المجعجعون ألف عام أو يزيد .
قد يقول قائل : ما الذي يمنع شعبا ما أن يدافع عن كرامته وسيادته عبر كتابه ومثقفيه ؟ نقول أن الوطن ليس شمعة ضعيفة معلقة بأعلى سارية تتلاعب بنورها الرياح أنى شاءت ، فيلزمه طائفة من كتاب التدخل السريع ينافحون عن وجوده ويعيدون له هيبته المفقودة . الوطن شمس تشرق في داخل القلوب ، فلا ينقطع ضياؤها حتى لو انتُزعَتْ هذه القلوب من أماكنها . الوقوف موقفا مشرفا في قضية وطنية يتطلب عملا على أرض الواقع ، وقلوبا تسكنها الرغبة بالارتقاء إلى أعلى الذرى ، وأفهاما تمحص وتحلل وتميز الخبيث من الطيب ، والحقيقة من الوهم .
لعلكم عرفتم ما الذي نتحدث عنه - لكنني أحذركم من اختزال الأفكار في حدث واحد فهذا مما يفقدها حياتها ويسلبها بهاءها - بعبع الوطن البديل الذي يتم بعثه من مرقده كلما شاءت إرادة ما أن تبعثه ، هذا البعبع علامة على الطريق لمن أراد أن يتوقف لحظة ويسأل نفسه : هل تردت قيمتنا إلى الحضيض بحيث أصبحت قصة من هذا النوع ، أيا كان مصدرها أو مدى حقيقتها ، تثير فينا كل هذا الاضطراب والهيجان ؟ أين مجال العمل المخلص ؟ بل أين ثقتنا بأنفسنا نقيمها حاجزا بين وطننا وأي خطر قد يتهدده ؟
يحق لنا أن نتساءل عن المحبة والتضامن المفقودين ، عن الأخوة الجريحة والفتن المتربصة تنتظر إشارة الانطلاق ، عن المتاجرين بأحلامنا وأقواتنا ، عن ارتمائنا في أحضان القتلة وقطاع الطرق . ألف سؤال وألف روح مفقودة علينا أن نبحث عنها كي نطمئن على أوطاننا ونحيطها بأهداب عيوننا .
قديما قال أحد الحكماء : لا يحرك العواصف إلا الكلمات المحمولة على أجنحة الحمام ، ما أحوجنا إلى أجنحة هادئة تحملنا معها إلى حيث يكون للكلام قيمته وللعاصفة مبرراتها .
أيها الأردنيون والفلسطينيون : أحبوا بعضكم بإخلاص ، عندها لن يؤثر فيكم أبدا نهش الفئران ولسعات الدبابير .
samhm111@hotmail.com