التماثيل في جرش: بذخ أم جاهلية جديدة؟!
م. قيس القوقزة
31-12-2015 06:51 PM
في العام الثامن للهجرة (629 ميلادي)، دخل علم الهدى (محمد) - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة، متواضعاً للّه، وهو يردد سورة الفتح حتى وصل إلى البيت، وطاف بالكعبة سبعة أشواط واستلم الركن بمِحْجَنِه خوفَ أن يزاحم الطائفين وتعليماً لأمته، وأخذ يكسر الأصنام وكان عددها "ثلاثمائة وستين صنماً"، وهو يتلو قوله تعالى: ((وَقُلْ جَاءَ الْحقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إنّ الْبَاطِلَ كانَ زَهُوقاً)) ثم دخل صلى الله عليه وسلم الكعبة وصلى بها.
وبعد 1367 عامًا، وفيما كانت عمان تستعد للاحتفال بعيد ميلاد الملك الحسين عام 1996، وكانت أمانة عمان قد أقامت تمثالاً ضخمًا من البرونز لهُ، تم نصبه ليلاً قبل الاحتفال على ميدان الدوار الرابع ليكون هدية أمانة عمان له، وحينما وصل الخبر للملك الحسين عن موضوع التمثال اتصل فورًا بأمين عمان وقال له بالحرف الواحد: "جاء جدي وحطم الأصنام هل تريدون مني أن أعيد وأقيم الأصنام مرةً أخرى" وأمره بإزالة التمثال فوراً وصهره حتى لا يبقى منه شيء، وبعدها بأيام وصلت رسالة من الملحق الديني بسفارة المملكة العربية السعودية في عمَّان من مفتي عام المملكة العربية السعودية ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارات البحوث العلمية والإفتاء "الشيخ ابن باز " - رحمه الله - في خطابه رقم 804/1 بتاريخ 14 /11 / 1417 هـ يقول فيها: "أنَّ جلالتكم قد منع إقامة تمثالٍ لكم في عمَّان، فسرَّني ذلك كثيراً، وشكرتُ لكم هذا العمل، ورأيتُ الكتابةَ في ذلك شاكراً".
وأثناء مروري قبل أيام بسيارتي في جرش، وقعت عيني على تمثالٍ أبيضَ، لرجلٍ بلحيةٍ مجدولةٍ بشكل لولبي، وشعرٍ طويلٍ، يمتطي حصانًا، وللوهلة الأولى وقفزت ابنتي الصغرى من مقعدها وهي مندهشة: " بابا ... أبو جهل راكب على الحصان"، ابتسمت ابتسامة خبيثة، ولأنني لم أعوِّد أبنائي على الكذب، (غطرشت) على الموضوع ولم أناقشه معها، لأنني لا أريد أن أوسع بؤرة الخلاف بيني وبيني ... ولكنني حينما رأيت "الفيسبوكيين" يحتفلون بإقامة هذا التمثال كان علي أن أنتفض وأن أكتب لوجه الله وللتاريخ من بعده.
ولأنني لست من هواة التطرف ولا أريد أن أكون، ولأن الامر محسوم من الناحية الشرعية بحرمة صنع أي تمثال بجسد روحًا " الرجل أو ابو جهل كما تقول ابنتي" و"الحصان الذي لا أعرف هل من نحته راعى أن يكون أصيل المشرب والمنبت، أم أنه هجين نتج من تزاوج نسلٍ غير أصيل مع آخر".
وفي الوقت الذي يتحرر العقل فيه من كل قيم الجاهلية، كنت أراجع بعض الأمور الملية المتعلقة ببلدية جرش خلال الثلاث سنوات الماضية بعد أن علمت أن التمثال كلف خزينة البلدية أكثر من 8000 دينار، ما عدا أجور النقل والتحميل والتركيب والأزمة الخانقة التي ضج بها مكان تركيبه، خصوصًا بعد المخطط المروري الجديد الذي قلت عنه وقبل تنفيذه أنه سيضع جرش بين نقطتي اختناق مروري في أول المدينة وآخرها وهذا ما حصل بالضبط، فنحن خبراء هندسة النقل نعرف تمامًا إلى أي اتجاه تسير شؤون الأحمال المرورية، إذا ما وجهتها خطط مرور غير مدروسة، ولو كنا قلة في عددنا في الوطن العربي.
ولنبدأ من العام 2013 كسنة أساس لتقييم الاوضاع المالية لبلدية جرش الكبرى، فقد كان حجم موازنتها (7,949,856) دينارًا وعجز الموازنة حوالي (2,899,389) دينارًا وقيمة الرواتب والأجور حوالي (3,511,680) دينارًا، وعدد الموظفين (689) موظفًا، وبهذا تكون نسبة الرواتب والأجور من كامل الموازنة حوالي (44,173%)، تكاد تشكل نصف موازنة البلدية، ولو افترضنا جدلاً أن كل الموظفين في البدلية يتقاضون نفس الأجر دون تمييز في الرتبة والدرجة فهذا يعني أن متوسط الاجر الشهري لموظفي بلدية جرش الكبرى حوالي (423) دينارًا وأترك لكم الرقم للتعليق، وهذه المعلومات على ذمة (المصدر الكتاب السنوي 2014 لوزارة الشؤون البلدية والقروية).
وبحلول العام 2014، كان حجم موازنة بلدية جرش الكبرى (9,471,420) دينارًا وعجز الموازنة حوالي (5,192,893) دينارًا وقيمة الرواتب والأجور حوالي (5,0726,81) دينارًا، وازداد عدد الموظفين ليصبح (773) موظفًا أي بزيادة (+84) موظفًا عن العام 2013، وبهذا تكون نسبة الرواتب والأجور من كامل الموازنة حوالي (53,65%)، وهي أكثر من نصف موازنة البلدية وهذا أمر كارثي، ولو افترضنا جدلاً أن كل الموظفين في البدلية يتقاضون نفس الأجر دون تمييز في الرتبة والدرجة فهذا يعني أن متوسط الاجر الشهري لموظفي بلدية جرش الكبرى حوالي (547) دينارًا وأترك لكم الرقم للتعليق أيضًا.
أما في العام 2015، فكان حجم موازنة بلدية جرش الكبرى (10,726,124) دينارًا وعجز الموازنة حوالي (5,192,922) دينارًا وقيمة الرواتب والأجور حوالي (5,0726,81) دينارًا، وازداد عدد الموظفين ليصبح (807) موظفًا أي بزيادة (+34) موظفًا عن العام 2014، وبهذا تكون نسبة الرواتب والأجور من كامل الموازنة حوالي (35,64%)، ونلاحظ هنا أنه وبرغم زيادة عدد الموظفين إلا انَّ قيمة الرواتب اخفضت وهذا امر غير منطقي رياضيًّا واقتصاديًّا وأترك لكم التعليق على هذا الموضوع بالذات أيضًا، ولو افترضنا جدلاً أن كل الموظفين في البدلية يتقاضون نفس الأجر دون تمييز في الرتبة والدرجة فهذا يعني أن متوسط الاجر الشهري لموظفي بلدية جرش الكبرى حوالي (395) دينارًا أي أن متوسط رواتب الموظفين الشهرية انخفضت عن العام الماضي بحوالي (150) دينارًا ومع كل خبرتي الاقتصادية عجزت عن تفسير هذا الأمر.
ومن هنا أعتقد أنه كان الأجدر ببلدية جرش الكبرى - في ظل الظروف الاقتصادية التي يمر بها الوطن والتي يدفع المواطن العادي ضريبتها من جيبه كدافع للضرائب- أن تضع هذه النقود في بنود سد ثغرات عجز الموازنة الكبير، بدلاً من نصب التماثيل التي لا تمثل روح ديننا الحنيف ولا عاداتنا، وحتى الدول التي تقوم بنصب هذه التماثيل فهي دول لا تشكو من مديونية أكثر من (11) مليار دينارًا، وعلى ذمة أحد الرواة أن التماثيل والمجسمات الثلاثة التي نصبتها بلدية جرش وأحدها على هيئة قلم في دوار القيروان والآخر مجسم معدني أصابه الصدأ بعد أول هطول للأمطار في باب عمان كلفت ما مقداره 15 الف دينارًا، وهذا بذخ ثقافي كبير في الوقت الذي حاربت البلدية مشاريع وأسماء ثقافية كبيرة في جرش بحجة دعم الثقافة والمثقف بزجها بعازفي الربابة والكلام الكوميدي الذي كانت تدعي بانه شعر وأدب، مع تحييد المثقف الحقيقي وأساتذة الادب وغيرهم من وجوه الثقافة الحقيقية، ناهيك عن النقود والعطايا التي تدفع لمراكز إعلامية وإذاعات ولصحفيين ليكتبوا ويملؤوا الصحف والمجلات بأخبار كبار الموظفين وسيرتهم الذاتية المغلوطة وألقاب مما هب ودب، واستعراض مثير يشبه استعراضات دوري السلة الامريكية لكرة السلة (NBA)، طمعًا من بعض الموظفين في ان تنتبه لهم عين الدولة فلربما حملهم أحد الاخبار الصحفية لكرسي وزارة، ولا اظن الدولة بعمقها وفكرها ووعيها يفوتها هكذا تمثيليات وأفلام (بولي وودية) مستهلكة.
أعود إلى بداية مقالتي هذه، فإذا كان أول ما قام به علم الهدى محمد صلى الله عليه وسلم هو تحطيم الأوثان، وإذا كان رأس الدولة قد رفض قطعيًّا أن ينصب له تمثال وأمر بإذابته، فكيف قامت بلدية جرش الكبرى بنصب هذه التماثيل التي تخالف كل معتقداتنا ومبادئنا، وبنفس توقيت ذكرى مولد خاتم الأنبياء والمرسلين (صلى الله عليه وسلم)، الذي جاء ليحرر الناس من عبادة الوثن والعباد إلى عبادة رب العباد.
وأقتبس هنا أبيات شعر لصديقي الشاعر العراقي الكبير وليد الصراف من قصيدة "دجله"، يقول فيها:
زُلفَـى إلى الَّلاتِ راحَ الذئبُ يـُسلـِمـُنا ولاتَ مــَنْ يـَفتـَدينـا بالقـَرَابـيـــنِ
فالَّلاتُ قـَدْ كانَ قبلَ اليومِ مـِنْ حـَجَرٍ وأصبـَحَ اليـومَ مـِنْ مـَاءٍ وَمـِنْ طـِيــنِ