(إلى أبي في عيد ميلاده السبعين )
أكتب عن الآباء، وعن هؤلاء الذين منحنونا من أعمارهم جسورا نعبر نحو الحياة، ونتخطى على ظهورهم المصاعب ، ونلجأ كلما مررنا بضيق إليهم ونمسك بأثوابهم كلما داهمنا خوف أو إستعصت علينا مسألة.
اليوم أبي يدخل عامه السبعين .. ولك علي حق أن أذكرك ما حييت ، وأن أدعو لك فما كنت يوما إلا عنوانا للشجاعة، وبيدرا من كرم وطيب ، وكنت تقول الحق رضي من رضي أو غضب من غضب .. لا تجامل في حق الله وحق البشر .
السبعون يا أبي ولم ترتاح خلالها يوما .. فمنذ أن شبيت على الطوق تحملت مسؤولية العائلة، وأنت الصبي الذي يشد على الدابة حمل الحطب والحليب مع طلعة كل فجر وتقطع الدروب الوعرة من (المسرة) مارا بسيل الزرقاء نحو المدينة لتبيع ما تحمل وتعود بعد غياب الشمس .
لم تكمل الصف الرابع فقد كان الرعي أولى ، وكانت الزراعة في الموارس مصدر عيش وحياة لأن التعليم كان وقتئذ ترفا.. لكن أصررت على التعلم لوحدك وأنت تنسخ سور القرآن حتى أصبحت تتندر على خطوط كتابتنا ، لكن تخرجت من عباءة القبيلة ورافقت الكبار فالمجالس مدارس .
تخطفتك دروب العسكرية مبكرا، فمن معسكر العبدلي إلى خو ، ومن غابة أم الكندم إلى الخان الأحمر وأريحا في فلسطين ، وقاتلت بشجاعة الفرسان في حربي عام ١٩٦٧ و١٩٦٨ ضمن اللواء المدرع /٦٠ وما زلت تذكر رفاق السلاح من إستشهد أم من بقي حيّا ، وتذكر اسمائهم من ثلاثة مقاطع ، وتركت هناك عمي (علي) شهيدا في تراب القدس ... ثم إنتقلت إلى الحرس الملكي الخاص وكنت بقرب الحسين ووصفي التل وحابس ، وكنت دائما تصف لنا اللحظات العصيبة عندما كانوا يريدون أن ينحني الوطن فخابوا وخسئوا من راهنوا على ذلك .
كنت تشتري لنا جريدة (الرأي ) كل صباح ، فكانت شرفتنا نحو العالم وكنا أطفالا فزرعت حب القراءة فيناوالتعلم ، وفي كل نهاية إسبوع تشتري ( مجلة العربي) لنعبر معها عوالم جديدة تتخطى أسوار البيت وتأسرنا دهشة الأماكن .
لم يمنعك فقرك وقلة الحيلة أن تكون كريما ومضيافا ، وأنا أذكرك كيف أرسلتني لأحد الأقارب لأحضر (خمسة دنانير قرضة) لنشتري عشاء لضيف طرق بابنا مساء ، لم تورثنا أرضا ولا مالا ولكن أورثتنا سمعة طيبة ونقاء سريرة وبياض كف لو علموا ثمنها لجالدونا عليها بسيوفهم .
أبي و " أقول أبي فيسعفني حنيني لوجه أبي ويخذلتي الكلام " ، أدرك أن الأبناء يحملون مشاريع آبائهم ، وأنهم ينفقون أعمارهم ليضيؤون دروب الأبناء وكما يقولون : كل شبر بنذر ... فنحن الأوفياء لك يا أبي .. فلا هانت منا عزيمة ولا خبت لنا نار وأنت على رأسنا وكنت وستظل سيفنا ورمحنا وظلنا الظليل ..
أعرف أن الصحة تنوء والحمل ثقيل ، ولكن يكفيك شرفا أننا ما كنا يوما أنا وأخوتي وأخواتي إلا مصدر عز وإفتخار لك ولأمي ، ونعرف أن كل ما عملناه لا يعدل حبة عرق نزّت من جبينك الطاهر في وظيفة المعسكر في صيف لاهب ، أو إختلطت بلقمتك وأنت تشتغل عاملا في محطة المصفاة ..
لكن دعوة من الله أن يمد في عمرك ويبارك في صحتك ويمنحك أياما أسعد ويجزيك عنا كل الجزاء والثواب لقاء كل ما قدمت .