بخلاف ما تطالب به اسرائيل القمة لن تدخل اي تعديلات على المبادرة العربية لا سيما بند اللاجئين
من يتمعن بفحوى مقابلة الرئيس الفلسطيني محمود عباس مع صحيفة "يديعوت احرونوت" الإسرائيلية الواسعة الانتشار عشية قمة الرياض, التي يتوقع أن تعيد إطلاق مبادرة السلام العربية لعام ,2002 يجد لغة دبلوماسية شفّافة تعكس نضوجا في الفكر السياسي الفلسطيني في مواجهة "عقلية القلعة" الإسرائيلية.لقد قذف عباس الكرة صوب الملعب الإسرائيلي بالتزامن مع تصريحات الامين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى في عمّان, كان مفادها أن الدول العربية تنتظر عرضا إسرائيليا لكسر دائرة العنف المشتعلة منذ سبع سنوات.
تحدث الرئيس الفلسطيني بإسهاب عن ما وصفه بالتغيير التدريجي في مواقف حركة المقاومة الاسلامية "حماس", شريك فتح السياسي في حكومة الوحدة التي تشكلت أخيرا بموجب "اتفاق مكة". واشار بالتحديد إلى إمكانية تعاملها باعتدال أكثر إزاء الحاجة لمواجهة الواقع المتغيّرعربيا, إسرائيليا وعالميا في المدار الأوسع.
رأى أيضا أن خالد مشعل, زعيم حماس السياسي, يسلّم خلافا للماضي بمبادرة السلام العربية التي اطلقتها قمة بيروت على عجل واستحياء قبل خمسة أعوام بالاستناد إلى مسوّدة سعودية. وبالتالي, يضيف عباس, ثمّة إمكانية تطويع ذلك.
صحيح أن حماس لم تقبل فعليا بشروط الرباعية الدولية لفك الحصار السياسي والمالي ممثلة بنبذ العنف والاعتراف بحق إسرائيل في الوجود واحترام الاتفاقات الموقعة مع الدولة العبرية. لكن عباس قال إنه توصل إلى تسويات مهمة مع حماس أعلنت بموجبها أنها "ستحترم المبادرة العربية والاتفاقات التي وقعتها منظمة التحرير" إضافة إلى تنازلها عن المشاركة في مفاوضات سياسية لافتا إلى "هذه من مسؤولياتي ومن مسؤوليات منظمة التحرير".
الإسرائيليون وصقور الادارة الامريكية يقيمون ضجة كبيرة حول الفارق بين "احترام" الاتفاقات و"الالتزام" بها بينما الاحترام الطوعي والحر أفضل من الالتزام القسري بحسب تصريحات عباس.
وهنا بيت القصيد وطوق نجاة القمة العربية المصيرية يومي "28 -29 آذار".
قادة رباعية الاعتدال العربي يراهنون على قيام نظرائهم العرب كافة بمن فيهم المشاكسون السياسيون في سورية وقطر بعمل المستحيل للبناء على موقف حماس "المليّن" لا سيما وأن حركة المقاومة دخلت باب الدبلوماسية العلنية من بابها الأوسع عبر مشاركة رئيس الوزراء إسماعيل هنية في وفد فلسطيني برئاسة عباس الفتحاوي.
من المتوقع ان تصدر القمة بالإجماع قرارا بإطلاق المبادرة العربية, والتأكيد على "التزام" وليس "احترام" كافة أعضاء الجامعة العربية إل 22 بما فيها دولة فلسطين بزعامة عباس الذي سيمسك بمقود المفاوضات السياسية بينما يعمل هنية وأعضاء حكومته على إدارة الشؤون الحياتية واليومية للفلسطينيين وإعادة توكيد الأمن والاستقرار ومحاولة فك الحصار المالي.
من سيقول بعدها إن هذه التسوية اللغوية ليست خطوة إيجابية تعكس نوايا حقيقية ملزمة فانه لا يعي الواقع ولا يريد سلام يرضي الطرفين.
بحسب دبلوماسيين يتابعون تحضيرات القمة, لن يدخل العرب أي تعديلات على المبادرة بخلاف ما تطالب به إسرائيل المأزومة لا سيما بند اللاجئين الذي يتحدث عن حل متفق عليه على أساس القرار الدولي رقم ,191 أي تسوية بالحوار والتفاوض.
الوضوح في الموقف العربي مدعوم بغطاء اسلامي. إذ ستنضم دول إسلامية إلى قائمة الاعتراف بإسرائيل ما يشكل مدخلا جيدا لأي عملية سياسية مستقبلية إذا كانت الأطراف الدولية جادة لإنهاء نزيف فلسطين المستمر منذ ستة عقود.
القمة العربية ستتبعها آلية تضمن التنفيذ عبر خطوات متزامنة ومترابطة, كما قال احد الدبلوماسيين للعرب اليوم.
من بين الآليات المقترحة لتنفيذ المبادرة إعادة تشكيل لجنة مبادرة السلام العربية "11" دولة حاليا واستبدالها بلجنة مصغرة برئاسة السعودية وعضوية دول وقعت اتفاقيات سلام مع تل أبيب كالأردن ومصر, وأخرى لديها الاستعداد لاقتناص نافذة الفرصة الأخيرة للسلام قبل بدء التحضيرات هذا الشتاء لمعركة الانتخابات الرئاسية الأمريكية العام .2008
اللجنة ستتقاسم الادوار.
صحيح أن التشاؤم الشعبي تجاه فرص استئناف المفاوضات وإمكانية صدور قرارات جريئة وملزمة عن القمة العربية لا يزال سيد الموقف بخاصة إذا قيست الأمور من زاوية ما حدث لمئات القرارات والمبادرات التي صدرت عربيا وعالميا منذ قيام دولة إسرائيل بعد حرب عام 1948 بسبب انحياز أمريكا والغرب وغطرسة الدولة العبرية.
الجامعة العربية صارت مجرد مبنى وعلم وأمانة عامة ومجموعة ملفات تعلوها الغبار. المآل الذي آلت إليه المبادرة العربية للسلام قبل خمس سنوات مجرد مثال على الوضع المأساوي في العالم العربي.
لكن هناك بصيص من الأمل أن تكون قرارات القمة هذه المرة مختلفة بسبب التحديّات المصيرية التي تعصف بالنظام العربي المنهار والمقسّم بعد سقوط نظام صدام حسين وتغلغل إيران في المنطقة وإمساكها من خلال عملائها المحليين بالثلث المعطل في أزمات العراق وفلسطين ولبنان في وقت تراجعت فيه هيبة ونفوذ الولايات المتحدة السياسي وصدقية الأنظمة العربية "المعتدلة" التي تحالفت معها لعقود.
هذه التحديات تضغط بقوة استثنائية لا سيما بعد انهيار ما مثله لسنوات عدة محور القاهرة - الرياض - دمشق, ما خلق فراغا قياديا مكّن قوى الخارج من استعماله في محاولاتها لإعادة رسم المنطقة وتقسيمها إلى مناطق نفوذ بين إيران وإسرائيل. في خلفية المشهد السياسي الاقليمي المحتقن انبعاث روائح "فتنة مذهبية واثنية وقومية" كريهة ظنّت المنطقة وحكوماتها طويلا أن العالم العربي تخلص منها. معطوف على ذلك بروز منظمات إسلامية أصولية تمارس العنف نهجا استطاعت أن تبيع نفسها للشعوب المحبطة والمهمشة على أنها بدائل للأنظمة القائمة في اغلبها على فكرة القومية العربية.
السعودية بما تمثله من ثقل سياسي وديني واقتصادي, استفاقت أخيرا, واصبحت الانشط حراكا للملمة الصف العربي. بادرت هذه الدولة لملء الفراغ القيادي, بالتعاون مع دول معتدلة ومهددة مثل مصر والأردن والإمارات العربية.
بدايات بلورة جديدة لعمل عربي نوعي كان عنوان التحرك الأخير. شكلت هذه الدول نواة لمجموعة عمل سياسي, أمني واستراتيجي لحماية مصالحها من خلال التشبيك الايجابي مع أمريكا وإيران وإسرائيل وتبادل الاعتراف بمصالح وبأدوار الجميع محليا وإقليميا ودوليا لضمان إقليم آمن ومستقر.
وهكذا عقدت العزم على كسر شوكة النفوذ الإيراني الذي وطد أقدامه بالمنطقة من خلال تحالف وطيد مع سورية وحماس وحزب الله مع بدء فصل تشابكه مع ملفات المنطقة العالقة.
هذه الدول أقرّت بمحورية القضية الفلسطينية, وضرورة استنفاذ نافذة الفرصة الأخيرة خلال الشهور الستة المقبلة لتحريك ملف السلام العربي-الإسرائيلي قبل موسم الانتخابات الرئاسية.
ولعبت أيضا على تطويع التغيير في موازين القوى داخل الولايات المتحدة بعد غرق الرئيس الأمريكي جورج بوش في مستنقع العراق وخسارة حزبه أمام الديمقراطيين في الانتخابات التشريعية الدورية قبل أربعة أشهر.
الآن تراهن هذه الدول على ضعف حكومة إسرائيل بقيادة إيهود أولمرت بعد حربه الأخيرة على حزب الله في لبنان وسلسلة فضائح فساد مالي وجنسي تطال المؤسسة السياسية والعسكرية فضلا عن انقسام حاد في الموقف الشعبي حيال السلام والتعاطي مع حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية.
شعار العمل العربي الأخير يتمحور حول مبادلة العراق بفلسطين: أي تخليص بوش من ورطة العراق والوقوف مع واشنطن في وجه إيران في حال وقوع مواجهة عسكرية على خلفية الملف النووي مقابل طي ملف السلام العربي الإسرائيلي نهائيا على أسس عادلة ودائمة, عبر الإصرار على ضرورة وضع أفق سياسي لصورة الوضع النهائي للتسوية قبل الشروع في اي محادثات جديدة.
الرباعية العربية قسمت الأدوار فيما بينها عربيا ودوليا كل بلد بحسب تخصّصه وكل زعيم بحسب قدرته على التأثير في محيطه الإقليمي والدولي.
مصر تحركت لعقلنة حماس وما زالت تسعى لإطلاق سراح الجندي الاسرائيلي المخطوف جلعاد شاليت - أحد شروط أولمرت للاعتراف بالحكومة الفلسطينية.
السعودية جمعت "فتح" و"حماس" في قمة مكّة لصيانة قضيتهم التي كادت تلفظ أنفاسها الأخيرة مع اقتتال الأشقاء الفلسطينيين, سعت لانتشال اللبنانيين من أزمتهم السياسية كما أطلقت سلسلة مبادرات لتخفيف الاحتقان الداخلي في العراق وفتح الأبواب مشرعة سياسيا وعسكرياً واقتصاديا باتجاه الاتحاد الروسي والصين وآسيا وأوروبا. في موازاة ذلك اعتمدت مقاربة واعية لطموحات إيران ولكن مع الاحتفاظ بهواجسها.
الآن تسعى السعودية لإعادة احتضان سورية وتخليصها تدريجيا من حضن إيران.
الإمارات والسعودية وفرّتا الدعم المالي للسلطة الفلسطينية وللرئيس عباس ضمن خطة لإعادة هيكلة الاقتصاد والأمن وبناء أسس الدولة الحديثة.
الأردن تحرّك صوب الباكستان وماليزيا واندونيسيا, عماد الثقل الإسلامي في آسيا, وحصل على دعم لخريطة طريق الاعتدال صوب سلام عربي-إسلامي مع إسرائيل. قبل أسابيع وضع الملك مبادرة السلام العربية على أجندة الكونغرس الجديد الذي يظل أهم مؤسسة تشريعية وسياسية في العالم بعد أن نجح في انتزاع التزام بوش ووزيرة خارجيته كوندوليزا رايس بتسوية القضية الفلسطينية على أسس الدولتين. الآن الجميع بانتظار رؤية واشنطن حول حدود ما ستقوم به مع الاسرائيليين وافاق التسوية.
في ختام قمة الرياض تكون الرباعية العربية قد نجحت في "تبكيل" ملف هجوم السلام الأخيرعبر إيجاد غطاء إسلامي للتحرك وسط تشجيع أوروبي وأمريكي مع القوى الاسرائيلية التي تريد السلام "اكثر من نصف الشعب بقليل". إسرائيل ستجد نفسها أمام استحقاق عربي-إسلامي بمظلة دولية. لكن على واشنطن أن تلقي بثقلها لدفع هذه الدولة إلى تقديم مبادرة سلام تحاكي خطة العرب.
واذا لم تفلح جهود الرمق الاخير, تكون دول الاعتدال قد برأت ذمتّها أمام التاريخ وأمام شعوبها وبرهنت للعالم ان عقلية القلعة التي أعمت ساسة اسرائيل هي سبب عدم الاستقرار العالمي.
ساعتها يبقى لكل حادث حديث.