ان أخطر التحديات التي تواجهنا في عصر الاتصال الرقمي هي حرية التعبير. كممت أفواهنا قرونا طويلة حتى لم نعد نحسن الكلام بلغة واحدة. دائما هناك لغة مزدوجة. وما دام هناك خوف قابع في النفوس من قول الحقيقة دون مجاملة، سيبقى الإنسان العربي متخلفا. وحرية التعبير في وطننا مشكلة: فهي جديدة علينا، لم نمارسها أصلا في بيوتنا ومدارسنا، لكن فرضتها علينا حتمية (تكنولوجيا الاتصال الرقمية)، فأطلقت عبر قنواتها رسائل خرجت مليئة بالأنين والتوجع.
اُطلقت حرية التعبير من قمقم الربيع العربي عام 1989، فإثر هبة نيسان المعروفة، تم الغاء الأحكام العرفية، وتلا ذلك انتخابات نيابية نزيهة جاءت بمجلس نواب قوي اصدر قانون الاحزاب عام 1991 ، وقانونا ليبراليا للمطبوعات عام 1993. ومع قدوم الصحافة الأسبوعية والمستقلة، ارتفعت حرية التعبير بصورة غير مسبوقة، وتحولت الصحافة والمواقع الالكترونية الى فضاء تنتشر فيه مضامين ناقدة: بعضها ايجابي يركز على البناء، وغيرها مضامين ناقدة هدامة تسيء للمجتمع.
ان السؤال الذي يطرح نفسه اذن هو: كيف لنا ان نتعاطى حرية التعبير لتصبح مكونا يبعث الاستقرار في الحياة الإعلامية؟
يمكننا ذلك حين نعي ان هذه الحرية مرتبطة بقيم الصدق والأمانة والأخلاق الرفيعة والجمال والإخلاص والإنصاف والنزاهة والموضوعية والنقد العقلاني والانتماء للوطن ومصالحه. فهل نمارس حرية التعبير الحالية ضمن هذه المواصفات؟؟
ان تخلي الإعلامي- بدءا بالصحفي الذي يعمل في وسائل الإعلام، وانتهاء بالصحفي المواطن الذي يقتنص صورة ويرسلها عبر هاتفه- عن هذه القيم، معناه الخروج عن قوانين مهنية مقدسة، وممارسته استقواء الكلمة «الخفيفة»، اللامسؤولة، وتغليب الثرثرة والإشاعة والقيل والقال والوتوتة، فتصبح وسائل الإعلام سلاحا خطيرا موجها علينا، بدل ان تكون لنا ومعنا.
بعض الإعلاميين لم يروا علاقة بين ارتباط حرية التعبير بالقيم السالفة الذكر، فأساءوا لمفهوم حرية التعبير، واساءوا بالنتيجة لشعبهم ووطنهم كثيرا. في نظر هؤلاء تحول المسؤولون الى ثلة من الفاسدين، واتهموا الكل بعدم الإخلاص وعدم الوفاء وقللوا من هيبة الدولة. ركزوا على الأخبار المسيئة وضخموها ولم يتركوا لشيء قداسته. فعلوا ذلك كله باسم حرية التعبير. بهذه الأساليب، صار بعض اعلامنا وبالا علينا، وصار نصيرا للإعلام المعادي وموجها ضد كرامتنا ونجح –تحت شعار حرية التعبير-على زعزعة ثقتنا بأنفسنا.. وان يفقد شعب ثقته بنفسه فذلك غاية المنى لأعدائه. وظن البعض ان الحل في مواثيق الشرف.
يقصر الصحفي، والاعلامي عموما، والصحفي المواطن خصوصا، حين لا يرى الا النصف الفارغ من الكأس. وهؤلاء في الأغلب لا يقيمون وزنا لأخلاقيات العمل الصحفي المتجذر في فلسفات الجمال والحب والانصاف والعدالة والكرامة التي أشرنا اليها أعلاه.
هذه السلبيات لا يمكن مواجهتها بمواثيق مكتوبة لأنها في نظر هؤلاء لا تعدو ان تكون اكثر من حبر على ورق ومرسوم رسمي. الحل فقط يكمن بالتركيز في مدارسنا وجامعاتنا على تعليم الفلسفة والمنطق والأخلاق. أذكر في مطلع الستينيات، حين دخل نظام التوجيهي في حياتنا (في اعقاب امتحان المترك) انه تقرر علينا في صف التوجيهي مادة مهمة هي (مدخل إلى الفلسفة)، تعلمنا منها نظريات الفلسفة مبسطة. مثل هذا التوجه يجب ان يعود إلى مدارسنا، والى جامعاتنا. أما تلك التي تدرس الصحافة والإعلام، فيجب ان تدرس الفلسفة بتوسع وبالتركيز على العقلانية بحيث تسهم في رفع الوعي القيمي بصورة تدفع ممارس العمل الصحفي تحديدا ان يرى النصف المليء من الكأس جنبا إلى جنب مع النصف الفارغ. لا نطالب بضرورة تغليب الايجابيات حتى لا يتهم الصحفي بالمحاباة والانحياز.
بهذا فقط نستطيع تجاوز ما سيأتي به قادم الأيام من غزو ثقافي يتهددنا ويهدد هويتنا من عولمة أخذت حبالها تلتف حول أعناقنا وتفرغ رؤوسنا من القيم النبيلة التي ترتقي بالانسان وبالعمل الذي يؤديه، وكل ذلك من منطلق ان الاعلامي يمثل ضمير الأمة التي ينتمي اليها،فهو (وكيل) مختص بجمع المعلومات وتحليلها يساعد المتلقي على اتخاذ القرار الصائب، وفي ذات الوقت يعبر عن طموحات مجتمعه وتطلعاته وهمومه بمصداقية منزهة وموضوعية رزينة.
الرأي