مناسبتان كريمتان تعيشهما هذه الأيام نسبة عالية من أبناء البشرية عموما، وأبناء منطقتنا على وجه الخصوص، والأردنيون على وجه أخص لأنهم يقدمون نموذجا فريداً في العيش المشترك لصاحبي هاتين المناسبتين، وهما ذكرى مولد رسول الله محمد, وذكرى ميلاد أخيه عيسى بن مريم عليهما الصلاة والسلام. نقول أخيه عيسى دون أن يكون في ذلك مبالغة، أو خروجا على تعاليم محمد وأحاديثه الكثيرة، التي تدل على هذه الأخوة التي بنيت عليها علاقة مميزة بين المسلمين وبين عيسى عليه السلام وأتباعه، وقبلهم أمه التي هي في عقيدة المسلم السيدة المصطفاه على نساء العالمين، فمكانة السيدة مريم في العقيدة الإسلامية متقدمة على مكانة من سواها من النساء، بما في ذلك نساء النبي وبناته، أما أتباع عيسى فهم الأقرب مودة للمسلمين، لذلك أصيب المسلمون بالكرب يوم غلب الفرس المسيحيين فبشرالله بنصرهم القريب بقوله تعالى «غلبت الروم في أدنى الارض وهم من بعد غلبهم سيغلبون»
إن هناك الآف الوقائع التي تؤكد التاريخ المشترك بين المسلمين والمسيحيين في هذه المنطقة من العالم،التي احتضنت بواكير المسيحية والإسلام، لذلك فإن تلازم ذكرى المولد والميلاد يفرض على أتباع محمد وعيسى عليهما السلام التدقيق من جديد في تعاليمهما ليتذكر كل منهما المسلمون والمسيحيون مواطن الإتفاق بينهم،لأن هذه المعرفة تشكل مدخلاً أساسياً من مداخل تخفيف عذابات البشرية في هذه المرحلة من مراحل تاريخها، خاصة وأن جزءا كبيراً من هذه العذابات يتم إلباسه قناع المسيح أحيانا، في سعي محموم لتجديد الحروب الصليبة والصليب بريء منها، بينما يتم إلباس جزء اخر من هذه العذابات لبوس الإسلام بزعم أن هذه العذابات هي طريق مسببيها لإحياء سيرة محمد وتجديد دولته، ومحمد بريء من هذا الإفك الذي يمارسه هؤلاء الأفاكون. فمثلما أن عيسى كان داعية محبة وسلام، كذلك كان محمد،فهو الذي بُعث رحمة للعالمين، وهو الذي تنزل عليه قول ربه عزوجل «من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا»، بل أبعد من ذلك كله، فكلاهما محمد وعيسى عليهما السلام تجاوزت رحمتهما البشر اللذين جاءا لهدايتهم، إلى ما دون ذلك من حجر وشجر، وقبلهما الحيوان، أولم تدخل الجنة امرأة لأنها سقت هرة كما قال محمد عليه السلام؟ فكيف يفتري التكفيريون على محمد كل هذه الافتراءات ليبرروا سفكهم للدماء؟ وبماذا يختلف هؤلاء الذين يكبرون عندما يقتلون، عن أولئك الذين يرفعون الصليب ليوغلوا في دماء الأبرياء؟ سؤال يزداد إلحاحاً في هذه الأيام، التي نعيش فيها ذكرى مولد محمد وميلاد المسيح، لنبحث عن إجابته من خلال إعادة قراءة سيرتهما وتعليمهما عليهما السلام، لنكتشف كم انحاز كل منهما للحياة وجعل الحفاظ عليها المقصد الرئيس للشريعة، كما بعثا بها من قبل ربهما الواحد الأحد.وبسبب انحيازهما للحياة كان إنحيازهما للرحمة والمحبة والجمال،في هذه الحياة دلت على ذلك كل تعاليمهما وكل تفاصيل سيرتهما.
كثيرة هي القواسم المشتركة بين تعاليم محمد وتعاليم عيسى عليهما السلام، ولا غرابة في ذلك، فكلاهما يغرف من نفس المعين، لذلك لا غرابة أيضا في أن ينحاز كلاهما إلى الإنسان ويحثان على احترامه، بصرف النظر عن لونه أو جنسه أو حتى معتقده، فكلاهما محمد وعيسى عليهما السلام لم يمارسا إكراه أحد على ترك معتقداته، بل بذلا قصارى جهدهما لهدايته في إطار من المحبة التي تشفق على الإنسان من الضلال.
وبسبب هذا الانحياز للإنسان فقد حارب عليهما الصلاة والسلام كل من وما يؤذي هذا الإنسان، وفي الطليعة من ذلك أنهما كانا حربا على الفقر، فانحازا إلى الفقراء، وحثا على ضرورة أن يأخذ هؤلاء الفقراء حقهم في الحياة، من هنا نفهم قول رب محمد وعيسى «وفي أموالهم حق للسائل والمحروم» ومن هنا نفهم أيضا حربهما عليهما الصلاة والسلام على البذخ والإسراف والسفه، وميلهما إلى البساطة في كل مظاهر حياتهما وحياة أتباعهما، بل وفي محاريب عبادتهما لله، فكلاهما لم يدعوان إلى المباني الشامخة في المساجد والكنائس، بل كلاهما عليهما السلام عبدا الله عزوجل في المغاور وفي الأرض الفلاه، حيث القرب من الله أكثر، وحيث لا زيف ولا ادعاء ولا تعلق بالدنيا يأخذ شكل الزخرف حتى في بيوت الله مساجد كانت أم كنائس.
وبعد فإن تلازم ذكرى مولد محمد مع ذكرى ميلاد أخيه عيسى، هي فرصة تذكرنا نحن أبناء هذه المنطقة التي درج عليها عيسى وباركها محمد، أن نعيد قراءة تعاليمها لنكتشف كم هي متطابقة في منظومتها القيمية، فكلاهما بشر بالمحبة والسلام والعدل والرحمة والصدق والأمانة، ونفر من البغضاء والظلم والكذب والنفاق، ومن سفك الدم، وإزهاق الروح، فكيف يجرؤ بعض المنتسبين إلى عيسى ومحمد،أن يرفعا السيوف على الأبرياء باسم عيسى ومحمد، أليس في ذلك إنحراف آن أوان تصحيحه سؤال نطرحه ونحن نعيش هذه الأيام في ظلال النبوة التي تبسطها علينا ذكرى مولد محمد وميلاد عيسى وتلح علينا أن نطلق صيحة نذير في وجه كل المجدفين الذين يزورون تعاليم محمد وعيسى ويفترون على الله
الراي