ملفات الفساد اعيدت الى الارشيف .. !
حسين الرواشدة
22-12-2015 03:18 AM
لو سألتني في نهاية هذا العام الذي اوشكنا ان نودعه (والعالم يحتفل باليوم العالمي للشفافية ومكافحة الفساد) عن كلمة واحدة تختصر “المشهد” العام في بلادنا لأجبتك بلا تردد: “الانكشاف”، كل شيء اصبح مكشوفاً: الفساد وملفاته، الناس وحاجاتهم وطموحاتهم، الدولة بكل مؤسساتها وعناصرها، القضايا المسكوت عنها، النخب وصراعاتها و”ملاءاتها” السياسية والمالية.. لم يعد ثمة شيء يمكن التغطية عليه او اخفاؤه أو التوهم بأنه ما زال بعيداً عن “اذهان” الناس ومواقعهم التي فتحت من جديد لتستقبل كل ما يصلها من ذبذبات.
لكن أخطر ما يمكن ان يحدث في “مرحلة الانكشاف” هو ان نتعامل معها بعيون مغلقة، سواء تحت “وهم” اننا لا نرى، أو اننا لا نريد ان نصدق، او اننا لا نملك ما يلزم من الارادة والجرأة على “الاعتراف” بالخطأ، و”التغطية” عليه بحلول حقيقية تقنع الناس وتطمئنهم على الحاضر الذي يعيشون فيه او المستقبل الذي ينتظرهم.
بالعودة الى عنوان “الانكشاف” الذي ذكرت أنه اصبح العنوان الاكثر دقة لهذه المرحلة التي نمر بها، فان اغرب ما فيه هو قصص “ الفساد “ التي أذهلت الاردنيين كلهم وما زالت عالقة بذاكرتهم، لدرجة ان احدنا لم يعد قادرا على استيعاب ما حدث، ولماذا، وكيف حدث، ولا على الاجابة على سؤال “الخروج” من هذه “التركة” الثقيلة التي زلزلت ثقة الناس بأنفسهم ومجتمعهم ومؤسساتهم, والاخطر بدولتهم ايضاً.
لا أخفي انني في مثل هذه المناخات “الانكشافية” اشعر “باهانة” شخصية كلما قرأت او سمعت عن حالة من “الفساد” الوقح الذي تزاحمت ملفاته علينا حتى لم نعد نملك القدرة على متابعتها، ومع ان اي من هذه “الملفات” لا تربطني بالمتهمين فيه اية علاقة، ولا يترتب عليّ شخصيا اية آثار، الا انني اعتقد بأن كل من مارس الفساد أهاننا جميعاً، وبالتالي اصبح من حق كل اردني ان “يرد” هذه الاهانة بالالحاح على اقامة موازين العدالة ومحاسبة هؤلاء الذين اساؤوا للبلد، وافسدوا حياتنا وضمائر البعض منا وذممهم.
لا شك بأن لدى القارىء العزيز ولديّ ايضا عشرات “القضايا” التي خرج منها رأس الفساد بعيون اكثر “وقاحة” مما يمكن ان يدرج في سياق “صدق او لا تصدق”، لكن ما استوقفني في بعض القضايا التي سمعت عنها ،( آخرها قضية ادوية اللاجئين) هو مدى “الاستهتار” الذي مارسه البعض بحق البلد والناس، حتى انهم اقنعونا - شئنا ام لم نشأ - انهم فوق المساءلة وفوق القانون ايضا.
اتساءل احيانا: هل مكافحة الفساد مطلب شعبي ام لا؟ وهل ثمة فساد مطلوب “للمكافحة” واخر مسكوت عنه؟ هل يتعلق الاول بصغار المفسدين من طبقات العمال والموظفين والاخر بالكبار الذين تصعب مساءلتهم او حتى الاشارة اليهم باصبع “من اين لك هذا؟” ثم لماذا اصيب مجتمعنا بهذه الازدواجية التي “شطرت” مواقفه الى درجة التناقض ، هل المشكلة في مزاج المجتمع وحساباته ومصالح بعض افراده ام في المقررات التي تصدر ، والاجراءات التي تتخذ والاولويات التي تقدم؟.
مهما تكن الاجابة فان مشكلتنا مع الفساد لا تتعلق فقط “برهط” من المسؤولين الذين استغلوا صلاحياتهم فامتدت ايديهم الى المال العام، وتورطوا في النهب والكسب غير المشروع، وانما ايضا مع حالة الافساد التي مارسوها لشراء ذمم الآخرين، واشاعة ثقافة الفساد في مجتمعنا وصناعة “طبقة” جديدة من “الاتباع” والمريدين الذين وظفوهم واستخدموهم لتلميع “صورهم” والتغطية على تجاوزاتهم واقناع الرأي العام بأنهم الاحرص على مصلحة الوطن.. والاكثر اخلاصاً وانتماء اليه.
ترى ، ما الذي يمنع ان نتعامل مع قضية الفساد كما تعاملنا - تماما - مع قضية “الارهاب” وان نحشد امكانياتنا الوطنية لمحاصرة المشكلتين معا ، ووضع ما يناسبهما من حلول ومعالجات ، ابتداء من الجذور وحتى الاعراض؟
نحن نعرف - بالطبع - اننا بدأنا فعلا باعداد تشريعات وقمنا باجراءات فاعلة للتصدي لكل ما يفضي الى الارهاب من اسباب وشبهات ، فقد تم اقرار قانون رادع يحاول بشكل استباقي ان يحاسب على النوايا والاعمال الارهابية ، وامام القضاء الاردني عشرات القضايا التي تنظر باتهامات ضد بعض الاشخاص المتورطين في مثل هذه الافعال ، وبعضهم تمت ادانته ،والخطاب الاردني يحاول جاهدا “ترشيد” حالة التدين ، وتطويق منابع العنف والتشدد ، واشاعة ثقافة الاعتدال والسماحة. ما الذي يمنع ان نضع الفساد في دائرة الاهتمام كما وضعنا الارهاب ، اليس الفساد هو الوجه الاخر للارهاب ايضا...وربما اخطر منه احيانا ..؟
خطر “الفساد” انه اصبح صادماً اكثر مما نتوقع، ومتغلغلاً بصورة لا يمكن تصورها، والاخطر من ذلك انه لا يتعلق فقط بنهب الاموال وبيع الممتلكات وتنفيع المحاسيب والتجاوز على الصلاحيات وخيانة المسؤولية، وانما يتعلق ايضاً بالاساءة والاهانة التي يشعر بها كل اردني حين يسمع قصصاً من هذا النوع المحزن، ولا يسمع ان المتورطين فيها اصبحوا وراء القضبان
للاسف بعد اربعة اعوام نكتشف ان معظم ملفات الفساد التي تم فتحها اعيدت الى الارشيف.
الدستور