في سيكولوجيا الجماهير .. (برامج السوبر)
17-06-2008 03:00 AM
1
أقامت الحركة الإسلامية الدنيا ولم تقعدها عندما كان المراهقون بل وبعض العاقلين والرسميين وكبار القائمين على أمر الشعب الأردني الذي ينخره الفقر والعوز والبطالة ويرزح تحت مديونية ضخمة تفوق مقدراته وموجوداته طوبة طوبة وحجرا حجرا وعمود إنارة عمود إنارة ومؤسسة مؤسسة، والذي يجري بيع مقدراته الآن قطعة قطعة من أجل سداد ديونه \"حسب الرواية الرسمية\" بدعوى الخصخصة، تحت تخدير حملة رسمية وشعبية ألهبت حماس المراهقين من أجل رؤية أي بطولة ومن أي نوع ليتعلقوا بها، لذلك دفع هذا الشعب فاتورة اتصالات ضخمة تطوعية يجمع لها الطلبة مصروفهم اليومي قاطعين اللقمة عن أفواههم من أجل أن يحظى الأردن بلقب سوبر ستار العرب للمغنية ديانا كرزون. أقول أقامت الحركة الإسلامية الدنيا بخطاباتها المستنكرة لهذه الحملة العبثية ومن ساندها.. ودافع عن الحملة أصحاب أقلام كان ينبغي أن تكون أكثر عمقا واحتراما لحِبرها.. ووصفوا الحركة الإسلامية أيامها بأنها حجر عثرة في سبيل السير إلى المدنية المنشودة، ووضع اسم الأردن على خارطة المجد من خلال تبني الموهبة الخارقة التي ستحقق للبلد سمعة وتنشر فنه وحضارته إلى العالم ...الخ وتورط في هذا كتاب كبار فوجئت شخصيا لتدخلهم في هذا الأمر وبهذه الصيغة. كان من أهمهم فخري قعوار.ومؤخرا شهدنا ردات فعل جماهيرية غاضبة لسقوط مرشح الشعب الأردني في \"ستار أكاديمي\" بما يشبه الفجيعة. ولا ندري هل كان الإحساس بالفجيعة مصدره السقوط نفسه.. أم الأسى على الاتصالات التي دفع الناس ثمنها من طعامهم ولم تأت بنتيجة ترفع اسم البلد؟
لكن لا أحد من الطرفين تنبه إلى هذا الزخم الشعبي الهادر باتجاه هذه المسألة وحاول استقراءه أو دراسته دراسة علمية، للوصول إلى ما يفيد أيا من الطرفين في معرفة عميقة بالبنية النفسية المصاحبة للمرحلة التاريخية العصيبة التي يعيشها الشعب كما هي شعوب المنطقة المنكوبة على امتداد تاريخها الحديث. دراسة تؤهل من يريد التأثير في الناس من أجل إدراك تلك البنية، والتعامل معها أو معالجتها أو الاستفادة باتجاه تحريكها نحو فكر أو وعي أو فهم أو استقطاب من أي نوع وبأي اتجاه مفيد. ذلك أن دراسة مثل هذه البنية النفسية هو الأساس في معرفة وسائل الاتصال الجماهيري المؤثر بعمق والذي يمكن التعبير عنه بالصيغة الإسلامية \"فقه الدعوة\" ولعل قلة من الدعاة أدركت \"فقه الدعوة\" واشتغلت عليه بطريقة ناجحة كل حسب فكره وتوجهه، لعل من أبرزهم الدعاة الجدد من عمر خالد إلى عائض القرني وطارق سويدان ..الخ، في حين لم نجد من الأوساط اليسارية من اعتنى بهذا الأمر ونجح فيه ـ أعني في الحقبة الأخيرة ـ أما في الجانب المعاكس فهم كثر بالطبع، ونجاحهم يتعدى الخيال، فمن كان يتصور أن شعبا مثل الشعب السوري يخرج إلى الشوارع ويمزق ثيابه ويبكي ويضحك وينادي ويهتف لمغنٍ شاب خارج من السجن حديثا لتخلفه عن الخدمة العسكرية؟ والأمثلة الأخرى كثيرة لا تحصى.
2-
قبل سنوات نقلتُ مضمون ما سمعته من الفقيه المستنير والداعية يوسف القرضاوي إلى صديقي وقريبي صالح الذنيبات (الإخواني آنذاك) القيادي الحركي المستنير والذي يعتبر القرضاوي ـ كما هو حالي ـ مرجعيته الفقهية أو (مذهبه)، وذلك حين قال على الجزيرة: \"إنه لا يوجد دليل واحد قطعي الثبوت من أدلة تحريم سماع الموسيقى. وإن تحريمها يأتي في سياق جمع الأدلة الضعيفة لتقوي بعضها، أما أنا فأعتبر كل خلاف ينبغي أن يفسّر في صالح التيسير على الناس، ولا أميل إلى التحريم إلا بأدلة قطعية الدلالة والثبوت\". /انتهى كلام القرضاوي/. قرر صاحبي هذا أن يسمع أم \"كلثوم\" لغاية ليست طربية بالتأكيد. وإنما ليحاول فهم ودراسة ذلك المحرك الخفي الذي يأسر الناس الذين يتوجهون إليها (مثلا) بما يشبه التقديس. وينجرفون باتجاه نجمهم بشكل يجعلهم مستعدين لبذل الغالي والنفيس بل وأحيانا الروح من أجله، بشكل لا يبتعد كثيرا عن معجبي وعشاق (دييجو مارادونا) الذين أسسوا ديناً هو كرة القدم، مارادونا هو آلهته، يحتفلون بأعياد الميلاد في يوم ميلاده، وكتابهم \"المقدس\" هو \"أنا دييجو\" الذي ألفه إلههم، ولديهم كنيسة مارادونية عدد أتباعها في ازدياد، تقوم بالتعميد، والتزويج أيضاً. لعل صاحبي يصل إلى ما يوسع به مداركه مكملا ما كان تعلمه في مسيرته الدعوية والحزبية من فهم للاتصال الجماهيري وتطوير أدواته في ذلك الاتصال بما يعين في تحقيق الهدف. وللأسف فإن هذا القيادي ومن هو مثله في هذا الفهم ليسوا ممن يمكن أن يُرضى عنهم لدى قياداتهم الإخوانية التاريخية، والتي لا تبتعد رؤيتها عن التخندق ضد هذا السلوك ومحاربته بالخطابة والتفسيق.
3-
بعد انتهاء (فزعة) سوبر ستار الأول، وحصول الأردن على اللقب العتيد، وانتهاء موجة الرقص ودموع الفرح بأشهر قليلة، زارني صديق يعمل في (أبو ظبي)، وجاءني بنتائج دراسة استطلاعية أجراها فريق من الباحثين المتخصصين في علم الاجتماع لمركز بحوث معين، وكان هدف الدراسة تحليل الكيفية والدوافع التي أدت إلى فوز الأردن (بعدد سكان ستة ملايين) بالمركز الأول، وسوريا (حوالي 25 مليون نسمة) بالمركز الثاني، وإخفاق مصر بقضها وقضيضها في المركز الخامس، وقد بنيت الدراسة على تحليل نتائج استبانة ميدانية تم توزيعها على عينات بعدد ضخم بحيث تعكس نتائجها إجابة مقبولة للسؤال الافتراضي موضوع الدراسة، وكانت النتائج مذهلة؛ إذ أوضحت أن التصويت في السعودية كان في صالح المتسابقة السورية.. والنسبة الغالبة من الإجابات تعزو السبب إلى الجمال الخارجي والشبه بين المتسابقة وبين (نجوى كرم) في ال\"الكسم\" والأداء.. مما يعكس حالة العطش للمرأة الأنثى لدى المصوت السعودي.. يقابل ذلك أو يوازيه التصويت الكثيف في دبي للمرشحة الأردنية، لأن المصوتين في دبي زاهدون في الجسد الخارجي باعتبار أنه كثير ومتوفر لديهم على العكس من السعودية. لذلك صوتوا للصوت الجميل فقط، إضافة إلى الموقف التعاطفي المعلن من المشترك الإماراتي من أصل فلسطيني والذي حل رابعا مع الأردنية (من أصل فلسطيني أيضا) ديانا كرزون. كما هو حال التصويت في الكويت التي ترعرعت فيها ديانا. وليس لدى مصوتيها عقدة الجسد.
هنا تعادلت الكفتان.. وفي الأردن وسوريا تعادلت الكفتان أيضا رغم الفارق الهائل في عدد السكان، بسبب تقدم الأردن في تقنيات الإنترنت وانتشاره أكثر منه في سوريا في ذلك الوقت. وقدرات المصوت الأردني (مثلا) في مسألة مسح (الكوكيز) والتصويت المتكرر، وسبقه لمصوت سوريا في التعامل مع الإنترنت والموبايل زمنيا.
إذاً أين كان الترجيح؟ ومن أين جاء الفارق بمئتي ألف صوت؟ المفاجأة كانت في نتائج مصر، والتي برغم أنها ذات عدد من السكان كان يكفي لو أرادت أن تحتكر المراكز الخمسة الأولى لفعلت.. إلا أن زهد المصريين في التعامل الجاد مع كل ما هو غير مصري في هذا المجال، وعدم إيمانهم بما هو خارج مصر! جعل المصوت المصري يخرج من المنافسة قانعا بالمركز الخامس. مما يستدعي مزيدا من الزهد في البرنامج الذي لم يعد فيه مرشح مصري. لكن الأصوات المتناثرة من مصر والتي رجحت كفة \"ديانا\" الأردنية كان مبعثها أكثر غرابة!! وهو أنها ( أي ديانا) كانت بدينة!! ( أي عكس منطلق المصوت السعودي تماما). وتذكرهم بأم كلثوم في شبابها!! ومن هنا كان الترجيح قادما من جهة غير معنية بالمنافسة أساسا.
هذا التحليل والاستطلاع يعكس الكثير عن الشعوب العربية ومداخل التأثير فيها، والأصل أن يشحذ فكر المفكرين لاجتراح وسائل الخطاب المؤثر فكريا استنادا إلى قاعدة معلومات (سيسيوسايكولوجية) ذات إدراك لمداخل ومخارج الأنفس وطرائق التأثير فيها.
4 ـ
نعود إلى السؤال الأساس- ما الذي يجعل الشعب الذي يعيش ظروفا صعبة (الأصل أن ينتهي معها مجرد التفكير أو الاهتمام بهكذا بطولات في الهواء). يفكر ويسهر ويتابع ويهتم وينافس ويصوت ويحتفل ويرقص ويصفق ويشهق مترقبا النتائج ويضحك ويفرح للفوز ويبكي ويلطم للخسارة؟ إنه بتقديري ذلك الجوع المزمن للخروج من حالة الهزيمة النفسية التي أصبحت مستدامة، بل إن أجيالا ولدت في ظل هذه الهزائم وترعرعت في كنفها بشكل جعلها أكثر توقا لأي انتصار مهما كان زائفا. وهي ذاتها أجيال فقيرة إلى الروح وتغذيتها وتربيتها.. ذات التغذية التي يسعى إليها عالم يابانيّ (كل ما في رأسه هو العلم. والإنتاج. والتقدم. ومنافسة المدنيات والحضارات الكبرى في العالم وفي التاريخ.) عندما يخلو لنفسه ويتعبد في صنم. أو يخشع وهو يتضرع لتمثال بوذا. هل نقول إنه لا يفكر بشكل علمي؟ ولو فكر بشكل علمي لرفض هذه الوثنية؟ كيف نقول ذلك وهو أبو العلم وأخوه؟ إنها الحاجة البشرية إلى نشوة الروح. واللهاث خلف الرمز. هذا عند العالم الياباني الذي شبع علما وغذاء. فكيف إذا جاعت الروح عند من هم جائعون وليسوا علماء؟
ومن يدري؟ بعد زمن.. هل يكون لمارادونا تمثال مثل بوذا؟ ولأم كلثوم معبد مثل زيوس؟ يحاربهما (في الظاهر) أثرياء ينادون بالتوحيد (ويدعمونهما سراً). بينما يدافع عنهما جياع في جسد يبحث عن رأس؟
http://atefamal.maktoobblog.com/