بين التاريخ .. والمستقبل .. وضع محفوف بالمخاطر ..
سمير الحباشنه
17-12-2015 08:37 PM
تشهد القضية الفلسطينية، بشقها المتعلق باحلال السلام على أسس عادلة تطورا متعاكسا من سلوك طرفي المعادلة العربي /الفلسطيني.. والاسرائيلي
(1) ولانهاء عقود الصراع الطويل والمرير، وما شهد من مآس وقتل ودمار واشاعة للكراهية.
فان الموقف العربي والفلسطيني لانهاء تلك المعاناة التاريخية تحول ايجابا نحو قضية السلام، وقدم تنازلات تاريخية جريئة وغير مسبوقة، مبديا نوايا حسنة وعملية، توجت بالمبادرة العربية، التي هي موضع حديثنا اليوم، والتي اكتفت بدولة فلسطينية في الضفة والقطاع، وعاصمتها القدس الشرقية، أي على 22% من فلسطين التاريخية، أي نصف المساحة تقريبا التي كانت مقررة للعرب في قرار التقسيم. بل وذهبت المبادرة قدما وتحدثت عن العيش بسلام لكافة شعوب المنطقة، واقامة علاقات طبيعية بين الاسرائيليين والعرب.. وبالتالي وحكما، بين اسرائيل والدول الاسلامية. حتى أن قضية اللاجئين وحق العودة التي استندت الى القرارات الدولية أخضعت بالمبادرة الى مبدأ المفاوضات. بالمقابل فان اسرائيل لم تثمن هذا التحول النوعي العربي والفلسطيني نحو السلام وقبولها في المنطقة، بل قابلت ذلك بمواقف متشددة تفضي عمليا الى نسف عملية السلام من حيث المبدأ.
وانها امام الضغط الدولي المتزايد اكتفت بالاقرار بالحق الفلسطيني باقامة دولتهم.. ولكن وفق شروط غير واقعية وغير قابلة للتحقق، فهم يصرون على الاستيطان بالمضي بمشاريع استيطان جديدة وبتسمين المستوطنات القائمة، والاستمرار بمصادرة اراض في الضفة الغربية، يرفضون مبدأ أن القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية، ويتحدثون عن قدس واحدة موحدة عاصمة لاسرائيل! ويرفضون مبدأ التفاوض على حق العودة، بل ويرفضون الانسحاب من الأغوار...
وهكذا حتى ان الاعتراف بمبدأ حل الدولتين هو في حقيقته ما هو الا ملاذ من شأنه فقط الحفاظ على الوضع القائم، أي على الاحتلال. بل وكل يوم نسمع بشروط تعجيزية جديدة تنم عن ان العقل الصهيوني انما يرفض السلام كمبدأ ويسعى الى الاستحواذ على كامل فلسطين التاريخية، ويرفض عمليا الاعتراف بالشعب الفلسطيني وبحقوقه التاريخية على ترابه الوطني!
(2) اذاً وبالرغم من التنازلات الجوهرية التاريخية التي قدمها العرب والفلسطينيون سعيا منهم لانجاز عملية السلام، فان الرفض الذي يقابل ذلك انما يراهن على عاملين اثنين: 1
1 . عامل القوة والتفوق العسكري.
2. عامل الدعم الدولي الغربي المنقطع النظير واللامحدود وبأشكاله الكافة العسكرية والاقتصادية والسياسية.
وعند التدقيق بذلك نجد، أن الحركة الصهيونية انما تعتمد على عاملين يتسمان تاريخيا بالحركة وعدم الثبات..
فالتفوق بامتلاك القوة العسكرية هو تابع الى متغير متنقل بين الأمم والشعوب.. فكم من دولة وامبراطورية امتلكت على مد التاريخ القوة والتفوق العسكري الذي لا حدود له والذي مكنها من الهيمنة اقليمياً ودولياً.
الا انها ما لبثت هذه الدولة / الامبراطورية ان زالت بزوال قوتها، ومن الامثلة على ذلك الامبراطوريات الرومانية، والفارسية، والعثمانية، والعربية، والنمساوية، والمانيا المعاصرة، بل ونرى الآن ذاك التراجع»الدراماتيكي»السريع للقوتين الاستعماريتين المعاصرتين اللتين هيمنتا على العالم بريطانيا وفرنسا، وبالمقابل صعود الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي «وسقوط الثانية»والصعود المنتظر للصين وروسيا.
وعندنا في القرآن الكريم آية تعبر عن ذلك بقوله تعالى « وتلك الأيام نداولها بين الناس» بل وبالعودة الى مقدمة ابن خلدون «مؤسس علم الاجتماع» على المستوى الانساني فانه يقدم تحليلا تاريخيا وماديا لكيفية صعود وزوال الدول والمجتمعات.
اذا فالاعتماد على القوة والتفوق العسكري لا يمثل اطلاقا مستقبلا يضمن للكينونة الاسرائيلية ديمومتها.. واني أذكر بأن العرب يمكن ان يخسروا امام اسرائيل ان استمر الصراع... عشرات الحروب، ولكنهم لن ينتهوا، وذلك لامتدادهم الحضاري والجغرافي والسكاني... غير القابل للاندثار.
ولكن بالمقابل فان اسرائيل يمكن أن تزول ان خسرت حربا واحدة لا غير. كما أن الدعم الدولي الذي تتمتع به اسرائيل اليوم وتلك الاسلحة الفتاكة التي تتزود بها وتلك المليارات التي تنهال عليها من كل حدب وصوب فهي كذلك من الامور التي لا تتسم بالثبات. فالدعم الدولي كان جليا ومنحازا لحكومة جنوب افريقيا والى روديسيا البيضاء العنصريتين ولعقود طويلة.
وفي محطة وعي وصحوة ضمير انساني وانكشاف الحقائق التي كان يخفيها النظامان العنصريان، انتهى هذا الدعم وانقلب السحر على الساحر وانصف العالم باجمعه شعبي جنوب افريقيا وزيمبامبوي المضطهدين... فنالا حقوقهما التاريخية المشروعة.
في ذات السياق، فاننا نلمس الآن بأن الدعم الدولي لاسرائيل، وجراء سياساتها العنصرية ورفضها لكل القرارات الدولية الخاصة بالقضية الفلسطينية، وانتهاكها لحقوق الانسان الفلسطيني وممارستها لجرائم الحرب وقتل الأبرياء، وتحويل الاراضي الفلسطينية الى سجن كبير، نلمس ان هذا الدعم بدأ يخفت وتضعف جذوته وبشكل متسارع، فنلاحظ التبدل في المواقف الغربية، نلاحظ ذلك بقرارات المنظمات الدولية التي تدين اسرائيل، بل وبالاعتراف الواسع بحقوق الشعب الفلسطيني، وان أكثره وضوحا اعتراف البرلمانات الاوربية بالدولة الفلسطينية، بل توصيات دول اوربية عديدة بدأتها السويد بالاعتراف الكامل بالدولة الفلسطينية، هذا اضافة الى موقف مئات الأكاديميين البريطانيين الذين يقاطعون مراكز البحث الاسرائيلية.. وتلك المقاطعة الاروبية الواضحة لمنتجات المستوطنات غير الشرعية القائمة على الأراضي الفلسطينية المحتلة. اي ان اسرائيل بالخلاصة مكشوفة على حقيقتها اليوم امام العالم.. مما يعني ان هذه التحولات الملموسة في الموقف الدولي سوف تشهد تراكما كبيرا عبر العقدين القادمين. فالعالم لن يحتمل سياسات وممارسات اسرائيل الى ما لا نهائية.
واعتقد ان النتيجة سوف تكون متقاربة مع ما آلت اليه الامور في جنوب افريقيا وزمبابوي، وان ما سوف يسارع في تلك التحولات سعي العرب والفلسطينيين نحو السلام وما عبروا عنه في المبادرة العربية التي تجتمعون اليوم لمناقشتها والبحث في سبل تحقيقها.
(3) وانني هنا لا بد أن أؤشر على عامل ثالث واضح، رغم ان راسمي السياسات في اسرائيل لا يعطونه الاهمية اللازمة، وهو العامل الديموغرافي، ففلسطين التاريخية اليوم، تشتمل على حوالي 7 ملايين يهودي، وعلى عدد مماثل او يقل قليلا من العرب الفلسطينيين، وان بقاء الحال على ما هو عليه جراء التعنت الاسرائيلي ورفض المبادرة العربية، فان الامور في النهاية تسير نحو دولة ثنائية القومية، وذلك حين يصل المجتمع الدولي لمرحلة لا بد ان يقر بما هو قائم على أرض الواقع، فالعالم لن يحتمل سيطرة مجموعة اثينية على أخرى... خصوصا وان تلك المجموعة الأخرى ليست أقلية، بل ان معدلات الخصوبة الفلسطينية تزيد عن مثيلتها في اوساط اليهود، وذلك يعني ان الزمن لا يسير بخط يتماشى وفكر التشدد وتطلعات الاستحواذ.
و هذا يعني ان الاصرار على رفض مبدأ السلام وعدم السير قدما بحل الدولتين.. انما يعني أن الامور تسير بالعودة الى ما كانت عليه في السابق.. كيانية واحدة، بتزايد سكاني عربي فلسطيني... مؤكد. فاين هي مصلحة أسرائيل برفض المبادرة العربية ؟
! ان اسرائيل تعي هذه الحقيقة، وبالتأكيد أنها ترى ما نراه، ولكن تمارس رفض الاعتراف بالواقع «Dynail» بفعل سيطرة غريزة الاستحواذ.علماً بأن الغرائز في منطق التاريخ تضر بمن يحملها وبمن تسيطر عليه، فالرغبة بالاستحواذ على كل شيء غريزيا تفضي بفقدان الشيء كله.
(4) وعلى جانب آخر ومن منبركم هذا فاني أتوجه الى الناشطين والداعمين لإسرائيل وبالذات في الولايات المتحدة الامريكية،ولأقول لهم أن دعمكم اللامحدود لاسرائيل والوقوف معها ( على عماها) وتجاوزكم على القانون الدولي وعلى حقوق الانسان وعلى قرارات مجلس الامن والجمعية العامة وعلى مجمل توجهات المنظمات الدولية، انما انتم تضرون بها وتدفعون بها نحو الهاوية، فالطفل المدلل عند ابويه وتعويده على الاستحواذ والحصول على كل ما يريد حتى لو كان بأيد أخرى انما هو في المستقبل «حكما» شخصا انانيا... سوف تقتله انانيته وتدفع به لأن يكون خارج السياق العام لمجتمعه، كبر ذلك المجتمع ام صغر.
واسمحوا لي أن اذكر هنا ان من المعيب على منظمات أمريكية ان تدعم الاستيطان ومشاريعه في الأراضي الفلسطينية، حيث يقول تقرير نشرته هآرتس بتاريخ 8/12/2015 بأن مجموعة من المنظمات الامريكية غير الربحية قد قدمت في الفترة ما بين 2009 و2013 مبلغ 265 مليون دولار لدعم الاستيطان والمستوطنين، وبما ان هذه المنظمات كما يشير التقرير هي منظمات غير ربحية وبالتالي معفية من الضرائب، فان هذا يعني ان حكومة الولايات المتحدة تدعم الاستيطان بصورة غير مباشرة رغم مواقفها الرسمية المعلنة منذ عام 67 برفضها للاستيطان واعتباره غير شرعي ومعيقاً للسلام. واذا علمنا وفق صحيفة «نيويورك تايمز» بتحقيق أجرته عام 2010 بأن السنوات القليلة الماضية التي سبقت هذا التقرير بأن دعم الاستيطان غير المشروع كان بحدود 200 مليون دولار بمعنى ان الدعم الامريكي للاستيطان يسير بصورة متزايدة رغم ارتفاع نبرة المواقف الأمريكية الرافضة للاستيطان!
بل وان من المعيب أيضا وغير الاخلاقي ان جزءا من هذه التبرعات انما يرسل لعائلات وافراد ممن أدينوا بجرائم ارهابية ضد الفلسطينيين، ومنها جمعية «حنانو» التابعة لحركة كاخ الارهابية المحظورة في كثير من دول العالم بما فيها الولايات المتحدة، وهي الجمعية الأبرز التي تتلقى دعما سخيا من تلك المنظمات الامريكية غير الحكومية المعفية من الضرائب!
واننا حين نقارن ما يرد في هذه التقارير بالقضايا المرفوعة على مؤسسات مصرفية بحجة أنها تدعم الارهاب نقول، أي عدالة أمريكية وأي مبادئ للثورة الأمريكية هي تلك التي تحكم الولايات المتحدة كمرجعية فكرية واخلاقية للدولة، ونتساءل لماذا لا نرى قضايا مشابهة ترفع ضد من يدعم الاستيطان ويمول الارهابيين المتشددين في اسرائيل، ومنه الارهابي «عافي بوبر» الذي قتل عام 1995 سبعة عمال فلسطينيين والذي يتلقى دعما ماليا منتظما من تلك المنظمات !
واقعة شخصية أود أن أطرحها أمامكم بانني وعبر نافذة التواصل الاجتماعي «الفيسبوك» تلقيت طلبا من اسرة في غزة تعاني شظف العيش والحرمان، تطلب مني مساعدة مالية.. وانني أخشى أن أساعد تلك الاسرة خوفا من أن أتهم بالارهاب، وترفع ضدي قضية كمساند او داعم او ممول للارهاب امام محاكمكم»العادلة» في الولايات المتحدة الامريكية!
(5) وبعد، فان المبادرة العربية هي سبيل المجتمع الدولي وكل القوى الخيرة في العالم لانجاز السلام العادل والشامل، وان أي تأخير بذلك أو مجاملة للحكومة الاسرائيلية المتشددة فانه أمر محفوف بالمخاطر ويهدد السلام الدولي باعتبار ان القضية الفلسطينية وان ضعفت مكانتها مؤقتا في هذه المرحلة بسبب تداعيات الربيع العربي فان هذه القضية سوف تبرز كمفصل وكعامل هام في العلاقات الدولية... بين أن يتم السلام وبين ان تندلع الحرب مجددا. *
ورقة مرسلة الى مؤتمر دعم المبادرة العربية للسلام، انتاليا 17-19/12/2015