بينما أنا جالس على الأريكة في فناء بيتي الرابض على تلك الأرض القريبة من الحقول ... ؛ جنحت ذاكرتي إلى الماضي البعيد وحطت بي لتذكرني بتلك الشخصية التي تستحق مني أن أخط لها تلك المشاعر الصادقة ، فالذكرى لمجرد الذكرى قد تكون مؤلمة وقد تكون جميلة ، جميلة لأنها تذكرنا بشيء هو جزء منا ؛ ومؤلمة لأنه عندما نلتفت حولنا لا نجد إلا أطياف الماضي والفراغ العميق الذي تركته تلك الشخصية الذاهبة في طريق المجد والرفعة ، وباتت سيرتها شريعة تربي فينا أجيالا تلو أجيال.
فبينما كنت قاصدا بيت الله ؛ لأداء الصلاة في يوم الجمعة ، أخذني المسير في ذلك الشارع الذي تؤدي نهايته إلى تلك القبلة ؛ وقد تجمع حشد كبير من الناس لسماع الخطبة ، أعجبني ذلك المشهد ، حيث كانوا يتلقون ما يقول الخطيب منتظمين في صفوفهم ينعمون بأجواء دينية فرحين بها ؛ إلى أن انتهيت من أداء الصلاة وأخذتني قدماي إلى طريق العودة .. وبينما أنا أسير في طريقي استوقفني مشهد عجيب!! ؛ فقد كانت تلك العصابة الرومية قد أصابها الاستفزاز من ركوعنا ؛ فقامت تضرب يمنة ويسرة مدججة بأسلحة استنكارية جاشت بها في ساحة المسجد ؛ فكانت المعادلة واضحة في حينها عندما أصبحت فئة مجندة لا تقهر أمام نفر قليل لا يعرف الخوف ، أخذت تلك الحفنة تذبح وتقتل وتعتقل وتضرب بسياط لا ترحم وكان جنونا قد مس رأسها ... ، وساقت تلك الطغمة من الجنود في طريقها طفلا لم يحرق علما ولم يرم حجراً ولم يهمس في طريقه همسة ؛ ولكنه تربى أن يكون عربياً.. ، فقادته ليدخل في لغة التعذيب والخسة ولم اكن أعلم عندها أن طفلنا الصغير أصبح بنظرهم عملاقا يحتاج لتوقيفه من الجنود خمسة .. قادوه وكبلوه وألقوه في سيارتهم لحين موعد المحاكمة ...
وفي اليوم التالي جاؤوا به إلى غرفة التحقيق لتبدأ رحلة العذاب المستمر التي سجلها له التاريخ بسيرته الذاتية ، فسألوه عن اسمه؟ ، قال : إني ظمآن قد شربوا كأسه ..!! ، قالوا ميلادك ؟ قال : ولدت في بلاد صنعتها النكسة ، فسألوه عن جنسيته وخبراته ؟ ، قال : إني حراث منكوب أعداؤه قد سرقوا شمسه ..!! وأنا من لوّن جسده العصا والسوط الذي قد ظهر بأسه ؛ حتى أسلمني حظي لعدو شيمته الخسة ..!! ، فقالوا ما حزبك ؟ ، قال : أنا من حزب فلاح قد سلبوا فأسه ؛ أعطوني فأسي بلا عنف فمن مثلي لا يدخل حزبا وليس لديه القدرة أن يرفع رأسه ...!!! ، فسألوه عن عدوه ؟ ، فأجابهم : عدوي رجل لا ينمو من جسمه إلا الأظافر ؛ ولم يترك فينا سائرا إلا كسر منكبيه العساكر ؛ ولم يجد بيتا من بيوتنا إلا هدم فيه القناطر.
عندها صعب الأمر عليهم فتنادوا بأصواتهم الباردة وشيمهم البائسة ؛ فزجّوه في زنزانة يحرسها جلاد قد رضع الخسة ؛ حتى تغيرت ملامح وجهه ؛ وبدا تلميذا نشيطاً قد حفظ درسه ، وجيء به في اليوم التالي وقد سملوا عينيه وقصوا أذنيه ؛ فعرضوا عليه اعترافاته ليقرأها ؛ فلم يسمع ولم يبصر ، فقطعوا أصابع يديه وطلبوا منه أن يكتب مذكراته ؛ فلم يكتب .. ، فنزعوا ثنيتيه وقطعوا لسانه وطلبوا منه اعترافا حول من جيّشه بتلك العروبة ؛ فلم ينطق .. ، فعندما استيأسوا أن ينطقوه .. قتلوه ...!!!.
وبعد فترة من الزمان جاءوا على قميصه بدمٍ كذب ؛ واختاروا بديلاً من شيعتهم فألبسوه عمامة سوداء وأجلسوه في مدرستهم ليلقنوه ذلك المنهاج الجديد ؛ ولكنهم سرعان ما انتبهوا لنباهة حسِّه وحسن تقديره ؛ فبدلا من أن (يهودوه) ... فضَّلوا أن (يُأمركوه) ...!!!.
www.waleed-aabu.com