"العقل الحكومي" هو ما يجب تغييره
عبد الله بني عيسى
12-12-2015 07:01 PM
يواجه المغتربون الاردنيون خارج بلادهم اسئلة مربكة من بعض الاشقاء، على شاكلة: كيف يكون المهندس الاردنيون من أمهر المهندسين في دول الاغتراب قياسا بنظرائه من مختلف الجنسيات، في حين أن شوارعكم في عمان ومدن اردنية تبدو بدائية وغير منظمة؟ كيف يكون لديكم موظفون تقنيون بهذه السوية العالية من المهارة، ودوائركم الحكومية ما زالت تعج بالملفات الورقية ويقتلها الروتين؟ وكيف يمكن لبلد ينتج صحفيين وإعلاميين بهذا القدر من الكفاءة أن يكون اعلامه متخلفا شكلا ومضمونا؟ وكيف يكون الاردني موظفا مخلصا مجدا منظما في بلد الاغتراب، في حين أن شريحة واسعة من موظفيكم الحكوميين مجرد مترهلين ذهنيا ووظيفيا واخلاقيا في بعض الاحيان؟ .. الخ.
في الحقيقة نصمت لأننا نعرف في دواخلنا أن المشكلة في الادارة الحكومية للموارد البشرية، وليس في البشر انفسهم. على أنها مشكلة مزمنة ولا تخص حكومة عبدالله النسور، الذي وإن جيء بغيره رئيسا، فإنه لن يغير من واقع الحال شئيا. لأن المطلوب تغيير جذري في "العقل الحكومي" برمته.
خلال وجودي في الاردن الصيف الماضي، فوجئت بأن جميع الاكشاك والبسطات والمقاهي على جانبي طريق إربد - عمان، وصولا إلى شارع الاردن، ازيلت بالقوة، بدعوى قيام بعض اصحابها باستغلال المتنزهين وفرضهم مبالغ أشبه بـ "الاتاوات"، مقابل استخدامهم جوانب الطريق للجلوس. تساءلت: لماذا لم تكن هناك مقاربة اخرى للتعامل مع هذه المشكلة، الم يكن بالإمكان مثلا إطلاق مشروع سياحي كبير ينهي "عشوائية البسطات والمقاهي" ويوفر لها البدائل بإدخالها ضمن مناطق سياحية متكاملة مرخصة وقانونية، بحيث تعمل المنشآت الجديدة أمام أعين الجهات المعنية لضمان عدم ارتكاب اصحابها أي مخالفات؟. فمثل هذا المشروع سيدر دخلا كبيرا على البلديات والجهات المعنية، اذا ما فتح امام المستثمرين، وإذا ما اعطي اصحاب المشاريع (العشوائية) تسهيلات استثنائية لتحفيزهم على الترخيص. لكن الجهات المعنية اختارت الحل الاسهل، إزالة تلك "العشوائيات" من حيث هي، وعلى طريقة قطع الرأس بدلا من حلق الشعر.
هذه الطريقة المزمنة في إدارة الازمات في العقل الحكومي الاردني، تعطي مؤشرا على احتكامه إلى أدوات قديمة بالية، مع أننا في بلد أحوج ما نكون فيه إلى تفكير من خارج الصندوق، لتجاوز مشكلاته الاقتصادية المعقدة، وذلك لضآلة موارده الطبيعية، مقابل توافره على موارد بشرية مؤهلة.
تحضر في الذهن أمثلة لمشاريع كانت واعدة، ولو أنجزت لأحدثت فرقا اقتصاديا واجتماعيا، بينها مشاريع انتهت وهي مجرد فكرة، وأخرى توقفت في منتصف الطريق، بدءا من مشروع المدينة الاعلامية، الذي بدأت فكرته في عمان، وانتصب شامخا في بلد شقيق، وتلفزيون "الغد" الذي أجهض بطريقة مازالت، وأظنها ستبقى، غامضة، ومشروع بوابة الاردن، الذي التصق بوجه عمان كما الثآليل السوداء القبيحة، ولا احد يعرف على وجه الدقة لماذا توقف، والباص السريع الذي تحول إلى أكثر النكات مرارة لدى الاردنيين.. الخ. هذه الامثلة وغيرها تطرح بوضوح اشكالية قصور العقل الحكومي، وعجزه المزمن، الذي يفاقمه لامبالاة البعض وسوء تخطيطه، أو فساده في مستويات أخرى. ولو كان العقل المنهجي والعلمي حاضرا في كل تلك المشاريع، مع قليل من الاخلاص والاحساس بالمسؤولية، لما انتهت إلى الفشل بما فيها المشاريع التي حامت حولها شبهات الفساد، لأن العقل العلمي المؤسسي يخلق لنفسه أدوات تمنع الفساد، أو على تقلل من حجم الخسائر الناجمة عنه.
لا تستغربوا إذن حين يلجأ رئيس الحكومة عبدالله النسور، الذي تواجه حكومته ازمة اقتصادية حقيقية، الى الطريقة ذاتها، في "استسهال" الحلول لمواجهة وضع مالي معقد، عبر فرض ضرائب ورسوم ورفع الاسعار، بغض النظر عن الثمن الباهظ الذي قد يدفعه الوطن كله نتيجة لهذه السياسة العقيمة والبائسة. الاستسهال المرضي فقط هو ما يجعلك تفهم، على سبيل المثال لا الحصر، لماذا تبقى ثروة وطنية هائلة مثل غابات برقش مهدورة ولا تدر دينارا واحدا على الدولة، مع أنها مع أجمل مناطق الاردن وبلاد الشام، وأصلحها للاستثمار السياحي، ولماذا تبقى "البترا" رهينة ادارة تقليدية بائسة، ونكتفي منها بالملاليم في حين أنها قد تدر دخلا يفوق ما تحققه فرنسا من برج إيفل. ولماذا يبقى البحر الميت يدر بضع عشرات من الملايين على الخزينة، في حين يدر على اسرائيل التي تشاركنا اياه وتستغل ذات الاملاح والعناصر الطبيعية فيه، مليارات الدولارات. ولذلك أيضا يبقى شارع الاردن بإطلالاته الساحرة غير وارد في خريطة المخططين السياحيين.. الخ.
عبدالله النسور في النهاية ما هو إلا نموذج يجسد تماما المدرسة الاردنية القديمة التقليدية في ادارة الدولة، والتي بدت نتائجها واضحة في الاخفاق الذي يطال جوانب واسعة من حياة الاردنيين. والمناداة بتغييره، لن يبدل من الوضع شيئا، ما لم تتغير منهجية إدارة الدولة أو "العقل الحكومي الاردني". فما يحتاجه الاردنيون اكثر بكثير من مجرد تغيير حكومي. إنهم في أمس الحاجة إلى مشروع أردن جديد ملهم يحيي الروح المعنوية بين المواطنين، ويعيد الثقة بمؤسسات الدولة، ويكون في مستوى طموحات ابنائه، ويستثمر في طاقاتهم، ويجترح حلول مشاكله من وسائل تنتمي إلى هذا الزمن، ويضع حدا لعدوى الفشل التي انتقلت من الحكومة إلى الاردنيين حتى باتوا يصدقون انهم يواجهون مشكلات قدرية لا حل لها.