الأندلس هو الاسم الذي اطلقه العرب على شبه جزيرة ايبريا، عندما دخلها العرب بقيادة طارق بن زياد عام 711م واستمرت الدولة حتى عام 1492م.
لقد قدم العرب والمسلمون في الاندلس للتاريخ صفحات باهرة من العلم والمعرفة، وامجادا من الآداب والفنون، وشيدوا من المباني والقصور والحصون ما بقيت آثاره الى يومنا هذا،دالة على مدى رقيهم وعظمة ايامهم.
ان الحضارة الزاهرة في الاندلس جعلتها مقصد طلاب العلم من مختلف بلاد اوروبا، يفدون اليها ليتلقوا العلم في مختلف فروعه،من فلسفة وطب وهندسة وفلك وغيرها،على ايدي الاساتذة العرب والمسلمين الذين اناروا الدنيا بعلمهم.
لقد اسس المسلمون اول جامعة في اوروبا سنة 227 ه اي 841م في مدينة سالرنو، وهي امتداد للجامعات العربية الاسلامية في الشرق,ثم انشئت جامعات طليطلة واشبيلية وغرناطة،فامها الطلاب الاوروبيون ينهلون من علومها،ثم يعودون الى بلدانهم يلبسون العباءة العربية،يقلدون بها اللباس العربي،وهذا شعار بان هذا الفتى قد تخرج من الجامعات العربية،وبقي تقليد العباءة يلبسه الخريجون حتى يومنا هذا.
قال جاك غودي : في كتابه – الاسلام في اوروبا :
اللباس العربي اضحى علامة الوجاهة العلمية الى اليوم، ولا سيما في المناسبات العلمية، كمناقشة الرسائل الجامعية، وحفلات التخرج في المعاهد العلمية.
اذا كانت المباني دالة على عظيم قدر بانيها,فان القناطر والسواقي والرافعات المائية والحمامات العربية والآليات السحرية والنوافير المبهرة الباذخة التي خلفها الاندلسيون دالة ايضا على عظيم شأن من بنوها.
تعد النوافير من عناصر الجذب في الحديقة الاندلسية،بما تضفيه من سحر وجمال،كما تظهر جماليتها من الصور الرائعة التي تحدثها اشكال الماء الذي تقذف به من فوهاتها واصوات تساقط المياه على الاحواض.
لقد كتب المؤرخ شريف عبد الرحمن في كتابه لغز الماء وقال : ان سحر الاندلس البديع والحس الرهيف والماء الرقراق الشفيف،كلها عناصر اجتمعت لتكون محور الكتاب،ذلك ان الماء هو المحور الذي تبلورت حوله ثقافة انبثقت من صميم الاسلام - ( وجعلنا من الماء كل شئ حي ) – لتسطع طويلا في افق التاريخ،وهي التي ثمنت هذه القيمة بانزالها منزلة خاصة،بصفتهاهدية السماء,حتى غدت ثقافة الاندلس ( ثقافة الماء بامتياز)
يؤدي الماء وظيفة دينية واجتماعية، ليس فقط بتحقيق طهارة البدن وانما ايضا بتحقيق طهارة الروح.
لقد كان الاندلسيون بارعين في علم البستنة،اذ عرفت المداس الاندلسية تطورا لم يسبق له نظير، فقد جلب العرب معهم تقنيات جديدة وفنيات متطورة واشكالا زراعيا مثلت ثورة خضراء حقيقية بالنسبة لتلك البيئة:
أما الفلاسفة الاندلسيون فقد اشتهر الكثير منهم،ونذكر مثلا الفارابي وابن رشد وابن باجة.
الفلسفة لا تخضع لسلطة التقدم والتأخر,لأن رجالها السابقون في الزمن،يمكن أن يصبحوا معاصرين لنا،نظرا الى طروحاتهم،يمكن اعادة صوغ الأسئلة الراهنة في الفضاء العربي بالاقتراب من نتاجهم الفلسفي, الذي ورثناه،أسئلة ظلت نائمة طيلة القرون الماضية،وها هي تستيقظ على وقع الثورات التي يضج بها العالم العربي،لكن هذه الثورات ما لبثت ان اصيبت بخيبة أمل.
كان الفلاسفة الثلاثة العرب الفارابي وابن رشد وابن باجه يشتكون في المدن التي أقاموا فيها من الطغيان السياسي الذي يتخفى وراء قناع السلطة الروحية،الى درجة ان هذه السلطة الروحية تحولت الى سلطة بيد الفقهاء.
كان الفارابي يتأمل المدينة العربية في عصره،انطلاقا من مفاهيم افلاطون وسقراط، وقد استفاد من هذه المفاهيم ليكشف عن التأخر السياسي في البلدان العربية، وكيفية معالجته،لكن لا احد كان ينتبه اليه او يقرأ نصوصه.
لأن المعرفة كانت تعيش على الهامش،لأنها في رأي الاسر الحاكمة آنذاك مجرد ازعاج يجب تجنبه.
حاول الفارابي في مدينته الفاضلة ان يربط بين المدينة وتجليات روح الانسان في الوجود،فان كانت جاهلة تكن المدينة جاهلة، وان كانت فاضلة وعالمة تكن المدينة فاضلة وعالمة,ذلك ان الانسان في حاجة الى الاجتماع والتعاون من اجل ان ينال أفضل كمالاته.
هكذا يقيم الفارابي فلسفته السياسية في اطار تفاعلات الانسان مع المجال والجماعة التي ينتمي اليها،اذ ان هناك جماعة من الناس استطاعت ان تحقق كمالاتها بواسطة العمران والحضارة.
هناك جماعة ظلت متأخرة وتعيش بالمنطق القبلي والعقيدي،وتضع حجابا بينها وبين التاريخ،لذلك ظلت ثابتة في الصيرورة.
لا يستطيع الانسان ان يحقق كمالاته الا في العيش في المدينة الفاضلة،ذلك ان الانسان من حيث هو كائن سياسي جاء الى الكون من اجل تحقيق غاية ما، ولن تكون هذه الغاية سوى تعميم الخير والقضاء على الشر،لذلك وجدت العدالة التي تضع حدا فاصلا بين الظالم والمظلوم.
بيد ان العدالة في حاجة الى اطار تتحقق فيه،ولعل هذا الاطار هو المدينة الفاضلة التي تنعم بانعدام الشرور فيها واذا وجدت تكون بالعرض وليس بالذات.
المدينة الفاضلة تشبه الجسم الصحيح الذي يتعاون أعضاؤه كلها على تتميم حياة الانسان وعلى حفظها عليه،وكما ان الجسم اعضاؤه مختلفة،متفاضلة القوى،وفيها عضو رئيس هو القلب،كذلك المدينة اجزاؤها مختلفة الفطرة متفاضلة الهيئات وفيها انسان رئيس.
لا يمكن اي انسان ان يكون رئيسا للمدينة الفاضلة بسهولة،لان الرئاسة تكون بسببين،أحدهما ان يكون بالفطرة والطبع معدا لها،والثاني بالهيئة والملكة الارادية،
هذان السببان نادر توفرهما في اي رئيس للمدن العربية،لانه اذا قمنا بتعداد هذه الاوصاف فاننا سننتظر استقالة معظم رؤساء المدن العربية.
ذلك ان الرئاسة تتحكم في ارواح الناس الذين يضعون نفوسهم كوديعة عندها
الامر الذي يجعل من الرئاسة من حق نخبة خاصة من الناس.
لا يمكن ان يصير الحال ويكون مقبولا للرئاسة الا لمن اجتمعت فيه عشر خصال وهي :
ان يكون تام الاعضاء،جيد الفهم،ذكيا،حسن العبارة،محبا للتعلم،غير شره على الماكول والمشروب،محبا للصدق،كبير النفس،وان تكون الثروة هينة عنده,ثم ان يكون قوي العزيمة.
اما ابن رشد فقد تامل المدينة العربية في عصره في قراءته لاشكالية السياسة المقدسة وصعوبة تشييد الدولة المدنية،فهو لم يتردد في الاعلان عن رفضه لهذا المزج الخاطئ – كما في ايامنا – بين السياسة المدنية والاصولية،كما تمثلت في دولة القوم المعروفين بالمرابطين،اذ كانوا في ابتداء امرهم يتبعون السياسة المدنية،وذلك مع اول القائمين فيهم، يوسف بن تاشفين،ثم تحول مع ابنه الى السياسة الكرامية،لما اصابه ايضا حب المال ثم تحول مع حفيده الى السياسة المتسلطة ففسدت المدينة في ايامه.
يذكر ابن رشد في شرحه على كتاب الجمهورية لافلاطون،تحول الدولة في ايامه من حال الى حال،اي من دولة ديموقراطية الى دولة مستبدة،فقد خبر هذا الامر من خلال التحولات السياسية الكبرى التي عرفتها الاندلس،
كما يجد هذا مناسبة لتفكيك بنية السياسة الفاسدة،واقتراحه للسياسة المثلى،ذلك ان مهمة الفيلسوف على ما كان يرى،لا تنحصر في تقديم منظومة معرفية لعصره من خلال تصنيفه للعلوم الضرورية في التربية والتعليم،انما تسعى الى هدم سياسة الاستبداد وبناء سياسة الديموقراطية.
لعل ابن رشد لكونه يمارس مهنة القضاء، كان مندفعا للدفاع عن العدالة في اطار الدولة المدنية،وهي ترجمة لمعنى المدينة الفاضلة التي لا يمكن ان تقوم الا حين يتم تغيير سياسة وحداني التسلط بالسياسة المركبة,اي اقرار مبدأ التعدد السياسي في لغة العصر الحالي.
يقول ان سياسة واجب الوجود او سياسة المتوحد،يستحيل تحقيقها في الواقع،لان المدينة لا يمكن تاسيسها على مقولات الفلاسفة ومن اجلهم فقط،بل يجب ان تشتمل على طبقات الزراع والصناع والباعة والاطباء والقضاة.
لذلك يتعين على المفكر السياسي ان يتوجه بنقده الى سوء تدبيرها من جانب وحداني التسلط، الذي يبالغ في استعباد سكان المدينة واخذ ممتلكاتهم بالعنف
تحمس ابن باجه لبناء مدينة الفلاسفة التي اسسها افلاطون،وتوسع في شرحها ابن رشد،وابن باجه الذي لم يسمح بالسكن فيها الا لمن تدرج في الموجودات
القصوى وغمرته السعادة,اي لمن اصبح فيلسوفا،ولكن ظروف حياة ابن باجة التي غشاها الكثير من الاضطهاد،حملته الى ترك مدينة الناس،وتشييد مدينة الفيلسوف الذي امتلك النور الفطري، وسكن في الكون بالرؤيا, وترك للناس ضجيج الحياة والولع بالثروة والسلطة.
ثمانية قرون لدولة الاندلس العظيمة, التي لم يضاهيها احد في زمانها من التقدم والرقي والحضارة
قال ابن خفاجة :
يا اهل اندلس لله دركم ماء وظل وانهار واشجار
ما جنة الخلد الا في دياركم ولو تخيرت هذا كنت اختار
لقد انهارت الدولة بعد الابتعاد عن الوحدة والمبادئ التي قاموا عليها وانشاوا دولتهم،ولكننا في الوقت الحاضر لم نقرأ التاريخ،ولم نحاول الابتعاد عن اخطاء الماضي لئلا نكررها ويقع المحذور والا نبتعد عن الديموقراطية والعدالة وبرهانية التدبير واخلاقية العمل السياسي العاقل
dr.sami.alrashid@gmail.com