ناموا قليلا واحلموا كثيرا
د. موسى برهومة
16-06-2008 03:00 AM
يحجب نكد الدنيا عن أعيننا الكثير من المباهج، ويمنعنا من التحديق في أعماق الحياة وتفاصيلها الموّارة بالبهجة والمترعة بالحبور.
وتشاء أحداثيات يومنا المسيّجة بالركض وراء لقمة الخبز وتسديد الأقساط وإحصاء الديون أن تضعنا في مواجهة مرعبة مع واقع تزداد أنشوطته ضيقا حول أعناقنا، فلا نملك منها فكاكا.
ولو أن كل واحد منا استكان لهذا الأمر الواقع، ورضخ لإملاءاته، ووضع يده على خده في انتظار الذي يأتي ولا يأتي لأضحت الحياة صنوَ الجحيم، ولصار الموت مشتهى الناس وقنطرتهم نحو الراحة الأبدية.
ولأن التبرّم والشكوى والابتئاس لا تقدم حلولا سحرية لأزماتنا الخاصة، ولأن العمر قليل وهارب، فلا يتعين أن ننفقه في الألم. ينبغي أن نذهب بكل حمولتنا الروحية والنفسية نحو مناطق الفرح، نبذر أرضها ونرعاها بالسقاية والحنان حتى تصبح جنة غنّاء ترفرف في ضواحيها الطيور.
وليس من شأن تطبيق هذه الأفكار المتفائلة أن نصطحب أنفسنا إلى سويسرا أو نتزلج على منحدرات جبال الألب، بل أن نفتش عن مكامن المسرّة في حياتنا من دون أن نتكبد في سبيل ذلك ثمنا باهظا.
والمسرّة ننشئها نحن ولا أحد سوانا، حينما نكتشف مناطق الحب في نفوسنا، وفيما حولنا من أشياء وكائنات وأصدقاء وتفاصيل. نذهب إلى ينابيع المسرّة وأرواحنا ظمأى لأسرارها والضياع في متاهاتها الممتعة.
فما الذي يضير لو فكر الواحد منا بكسر روتين يومه، والتمرد على حال الرتابة الذي يجعله كائنا آليا أو ماكينة خرساء تعمل بلا توقف؟
إن رحلة أو سهرة أو سفرة غير مخطط لها مع العائلة أو الأصدقاء كفيلة بمنح الروح دفقة أمل تزوّد الكائن بطاقة، ولو بسيطة، للنظر إلى العالم بعينين تشعان حبورا.
وكما تفعل فينا أغنية فعل الزلزلة، فتهيّج الذكريات وتهزّ أوتار القلب وتجعل الدم يتدفق قي العروق، هكذا ينبغي أن نقترب من الحياة في شقها المرصّع بالأمل، أو في نصف كوبها المليء بنخب التفاؤل، لا النصف الذي يجأر في أروقته الفراغ.
والأمر ليس عصيا إن نحن قررنا أن ننتمي للحياة، وأن نطور ثقافة العيش، وأن نجترح أساليب وأدوات تجعلنا نتغلب على السكون ونقهر الرتابة ونلقّن الآلآم درسا قاسيا لا تعود بعده تقضّ مضاجعنا وتؤرق ليالينا وتسمّم لحظاتنا.
ولو أن كل واحد منا أيقن كم هي الحياة قصيرة وعابرة، لأدرك، على الفور، كم من الضروري والملحّ أن يعيش العمر لحظة بلحظة، وألا يجعل التفاصيل الصغيرة تنهش لحم الوقت بمخالبها المتوحشة.
وترنّ في ذاكرتي، هاهنا، وصية الكاتب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز التي كتبها لأصدقائه بعدما أنهكه الداء الخبيث، يحثهم فيها على منح الأشياء الحقيقية في الحياة قيمتها: "ناموا قليلا، واحلموا كثيرا"، لأن "كل لحظة نوم خسارة لستين ثانية من النور".
ويود ماركيز أن يبرهن لأصدقائه وللناس أجمعين بأنهم "كم يخطئون لو اعتقدوا أنهم لن يكونوا عشاقا متى شاخوا، فهم لا يدرون أنهم يشيخون إذا توقفوا عن العشق".
هل يدرك المرء قيمة الحب وفعل العشق حينما يذوّب غصن روحه ويشذبها ويضعها على سكة المدنيّة.
مصباح الحب يضيء كل ظلام، ويبدّد كل عتمة إذا كان الحب صادقا وخالصا ونقيا، وبلا أكاذيب أو خداع أو مصالح عابرة سرعان ما تذوب وتذوي كفقاعة صابون!
بالحب يكتشف الكائن إنسانيته ويبرهن عليها، وبه ينتسب إلى الحياة. بالحب نتغلب على نكد الدنيا وشقائها وشظف العيش وأرق الديون والخوف من المستقبل. به، وحده، نهزم الموت الذي لا يأتي بسبب السن، وإنما بفعل النسيان، كما يقول صاحب رواية "الحب في زمن الكوليرا".
ويقطّر ماركيز زيت حكمته في وصيته، فيحثّ أصدقاءه: " قل دائما ما تشعر به وافعل ما تفكر فيه". فمن منا يمارس هذا، ومن منا يتوقف للحظة فيحاسب نفسه ويلومها ويشكم الجانب الأمّار بالسوء فيها؟
لقد تعلمت منكم أيها البشر، يعترف ماركيز. "تعلمت أن الجميع يريدون العيش في القمة غير مدركين أن سر السعادة في كيف نهبط من فوق".
بهذه الروحية يمكننا أن نستبق زحف الزمن وأن نصنع لحظات لا يمحوها النسيان، كما فعل شاعر تشيلي العظيم نيرودا حينما عنون مذكراته بـ" أعترف أنني قد عشت".
وحتى نعترف أننا قد عشنا حياة مضمّخة بالبطولة والفروسية والعطاء والفرح، يتعين أن نعانق الحياة بكل ورودها ونسائها وأطفالها وسمائها ومائها، بكل موسيقاها، بكل صخبها وجنونها، ونكفّ عن النظر إلى الأشياء من خلف الزجاج الأسود، لأن نشيد الضياء ينتظرنا للانضمام إلى جوقته كي نهتف للحب والمسرّة والأمل.
mussaben@hotmail.com
الغد.