بعض المقالات تفتح نفسك لمزيد من القراءة والاسترسال في مناقشة موضوع معين ، والبعض الآخر يلقي بك في غياهب الإحباط النفسي ويحدثك من علياء سامقة أو يوغل في تجاهله لأبسط قضايا حياتك وهموم يومك ، وبين هذين الصنفين تدرجات كثيرة ومراحل يقطعها القارئ منتقلا من لون إلى لون ومن سخط إلى رضا بحسب ما يعرض له من واقع الحال .
الخطورة في الموضوع أن الكتابة ليست عملا يمكن إدراجه في خانة الكماليات التي قد تمضي الحياة دون أن يكون لها تأثير يذكر ، فثمة قضايا ملحة وصعوبات يعانيها المواطن وإخفاقات نفسية وضغوطات خانقة يلجا القارئ بسببها إلى من يتوسم فيه القدرة على ترجمة همومه وتنفيس كربه ووضع قضاياه موضع الجد والنقاش والمساءلة . وثمة مستجدات إقليمية وفتن كقطع الليل المظلم تتطلب من يسبر أغوارها ويحللها مخرجا القارئ من حيرته ومقدما له وجهة نظر متماسكة الجوانب والأركان ، يتسلح صاحبها بحد أدنى من الاطلاع وحسن النية ومهارة السبك موصلا وجهة نظره إلى اكبر شريحة من القراء والمتابعين .
فان عدمت الكتابة أن تكون احد هذين الفعلين انتقلت حتما إلى أن تكون فعلا ترويجيا أو فعلا تحريضيا ليس له من المساس بالقضايا العامة نصيب ، ولا يقدم شيئا سوى أن يبدد وقت القارئ ويحقق مصالح شخصية أو فئوية ضيقة .
دعونا من المثاليات لندخل في صلب الموضوع ونقول أن هناك كتابات ورقية أو الكترونية يحسب لكتابها طرحهم لقضايا مهمة على صعيد ساحتنا الأردنية بأسلوب موضوعي لا يخلو من النقد اللاذع الذي لا يخرج عن أصول اللياقة والأدب ، لكن على الجهة المقابلة تعج الساحة بطائفة من كتاب الترويج والتحريض ، والمقصود بالترويج ليس ما يتطلبه العمل السياسي الحزبي فهذا عمل نحترمه ما دام مستندا إلى بنود الدستور والقانون ، وإنما المقصود تلك الأقلام المتوثبة المنافحة عن فلان وعلان من أصحاب الشأن ، الغارقة حتى آذانها في شخصنة الأحداث وخلع صفات العظمة والتنزيه على من يفترض فيهم أنهم بشر يصيبون ويخطئون ويخضعون للمساءلة والنقد .
حين يشتط شخص ما ويغلو في الترويج لمسئول معين مرارا وتكرار فان شكوكا كثيرة تثار وتجعلنا نتساءل : لماذا يفرغ هذا الشخص كل وقته ومجهوده من أجل الذب عن هذا المسئول أو ذاك ؟ وما هي الدوافع الخفية التي تبيح لصاحبها أن يتخذ موقفا عدائيا تجاه المجتمع وأسسه وثوابته من أجل إثبات نظرية ما وتلميع اسم بذاته .
ولا يفهمن من كلامنا هنا أننا ضد أن يقول المرء كلمة الحق ويكافئ المخلص العامل بجد واجتهاد بما يوضح انجازاته وتفانيه في أداء مهامه ، لكن ما نحن ضده هو المبالغة والشطط على حساب المشاكل الملحة التي يعانيها الوطن والمواطن .
الطامة الكبرى في الموضوع هي تناول المجتمع وثوابته بالنقد المبطن حينا والصريح حينا آخر ، فهناك هجمة تتصاعد وتيرتها على مظاهر راسخة في بنيان مجتمعنا الأردني ، العشائرية واحدة منها والسلسلة طويلة ، غير أن المفارقة الأشد تكمن في اتخاذ التاريخ سلما من اجل الترويج والتلميع ، وربط الأحداث ورموز الأمة ربطا سمجا بأحداثنا المعاصرة ، ربطا تبدو فيه الثقافة معدومة ، فالاستشهاد بالتاريخ لا يكون هكذا ، والجهل في حالة كهذه ارحم بمليون مرة من أن يستغل التاريخ ويتم لي عنقه والخروج بنتائج كارثية على الصعيد المعرفي والأدبي والأخلاقي .
ما الذي يجعل الترويج عند هؤلاء يتحول إلى تحريض ؟ ولماذا يريدون أن يدقوا مسمارا في نعش بنياننا المجتمعي المتماسك ؟ وهل من حسن الأدب أن يختلط النقد بالتهكم ؟ وهل من الموضوعية أن يتحدث المرء بالسوء عن من لم يعرف وما لم يجرب ؟
أحسب أننا نعيش في زمن ( النوابت ) .. نوابت الكتابة والعمل الصحفي ، لكن المعول عليه هو أصوات نقية كثيرة ما زالت تفرض وجودها في الساحة وترى الكتابة أمانة وواجبا وشرفا يؤديه الكاتب إلى نفسه واحترامه لها قبل أن يؤديه إلى وطنه وأفراد شعبه .
samhm111@hotmail.com