وكأن الوطن ناد ٍ ، أو ملتقى ثقافي ، أو مناسبة اجتماعية ، يريد البعض أن \" يُذلنّا \" على أنه عضو فيه ، أو سجل كلمة في دفتر الزوار والمؤازرين ، أو قدم له هدية ما ، أو استمطر السماء ذات ليلة شباطية ، فأمطرت السحب بنزرها على حواكير الفلاحين في قرية ، أو سقت مراعي البدو في سهول البادية ، أو نظفت شويرعات وأزقة المخيمات من تلوثها في مخيمات اللاجئين التي نسيها البعض .
البعض في البلد أصبح يتبجح بهويته الأردنية وانتماءه ، وإخلاصه ، وبطولات جسده \" الفاخر \" على فراش الوطن الوثير ، ويتبجح كلما حك العود في العود ، بأنه أردني منتم ، حتى ليدفعنا الى كراهية أن تكون وطنيا أو تعلن انتماءك .
أصبح الإنتماء مادة ترويجية ، و\" كريم واقي \" تستخدمه بعض الوجوه ، خوفا من شيخوخة الانتماء الحقيقي ، وحفظا لما جف من ماء الوجوه ، كالصحراء التي تكذب على القوافل بعرض واحة في طريقها ، وبقاء \" سبخة \" آسنة مالحة أمام أفواه أباعرها .. بل أصبحت الوطنية سلعة دعايتها قوية ، تماما كالمشروبات الغازية التي لا تروي ضمأ ، ولا تيسر الهضم ، ولا تمنح الصحة ، بل كل مافيها ضرر في ضرر ، وتناولها مضر للصحة والعافية ، والإفراط في استعمالها يؤدي الى فشل .. فشل ما بعده فشل ، في جهاز الجسم ، ينتهي بالعمى ، حتى لا يعد الإنسان يرى ما حوله ، وتتساقط خطواته في حفر الواقع ومطباته ، بل وتنزلق الأقدام في هاويات المجهول .
الهوية .. ليست وثيقة تحمل في محافظ الجيب ، لإثبات الهوية .. ولم يكن الورق يوما دليل إثبات على إن الإنسان هو أبن الوطن ، فكثير من الوثائق المسلسلة أثبت \" التزوير \" صحة حملتـّها ، حتى بات الصحيح والكذب توأمان ، ولقلبك أن يختار من منهما هو الأصح ، في زمن لم يستطع علم تسخير الـ DNA إثبات الأصول ، ولا تحليل الدم التدليل على مدى انتماء الأبناء ، فرب نطفة خرجت من ظهر الرجل فقتلته .
أسوأ ما في الحياة ، أن يقتل الأبن أباه ، وأن تعض البنت ثدي مرضعتها ، وأن يصبأ الرجل عن دين قومه ، فيبيع نفسه الحرّة الى تجار العبيد اللاهثون وراء استعباد الأمم ، واستبداد البلاد ، وسلخ الناس عن كل ما هو جميل ، من قيمهم .. من أخلاقهم .. من تراثهم .. من ماضيهم .. ليبقى كل شيء في الدنيا مرهون للظروف ، وكل شيء في الدنيا من الدم وحتى السياسة معروض للبيع في مزاد العالم المفتوح أمام كل شيء ، سوى حقنا ، فقد أوصدت الأبواب أمامه ، وصدأت الأقفال على أبواب سجنه .. والأنكى .. : مسحت الذاكرة تماما من تاريخه.
لا يستقيم ارتباط الأوطان بالأشخاص .. ليختزل التاريخ بشخص ، وتتمرد \" شخصيات الطوارىء \" على تاريخ بلد اشترك الجميع في صنع ماضيه وحاضره وسلسلة أحداثه ، وضحت العائلات بأبناءها ، والأسرّ بأموالها ، والآباء بخبز عيالهم ، والأمهات بتعبهن وسهرهن وزغاريدهن وتربية أطفالهن ، في سبيل رفعته ، ورفع اسمه عاليا ، لتخفق في سماءه راية الوطن لا يزاحمه فيها غريب حاقد ، ولا لقيط هزيل ، ولا تاجر ماكر ، ولا مطرود من بلده اتخذ الأردن \" ترانزيت \" وسوق حرة ليملأ حقائبه بما لذ وطاب من روائح أهلها ، و كعك فقراءها ، و جلود أنعامها ، وقوارير مياه آبارها ، وتراويد نسائها .. ثم يفوز بسحب اليانصيب ليكسب ملايينها .. حتى ينادي باعلى صوته ، وشاشات أفواهنا البلهاء تنادي معه .. عاشت السوق الحرة .
البعض .. وآه ٍ من هذا البعض .. يظن فعلا ،إنه أردني .. بل يظن إنه وطني .. ومنتمي ، وصاحب فضل كبير ، وبنى ظنه المظنون به ، على انه يحمل اسما اردنيا وابن عائلة اردنية ومات جده على هذا التراب ، بل ويزج بحادثة ليس لها أصل ، في حادثة وطنية ، ليلصق الوجاهة و فخامة الوطنية على جدار وجهه البائس ، ويحاول جاهدا ، أن يغسل بصابون أهله الأبيض ، سواد يديه الملطخة .. وأنى له النظافة .
يجب ان يعلم \" البعض \" ايضا .. ان ليس من شروط المعركة الفوز بها لتثبت بطولتك ، فشرف الخوض فيها مؤمنا بعدالة قضيتك ، وبراءة سجيتك ، وخالص نيتك ، والاستبسال في الدفاع عن الحق ، ذلك هو الفوز ، حتى وإن خسرت المعركة ، فقد فزت بها بشرف بذل الغالي والرخيص ، في ساحة لا يسألك العدو فيها عن بطاقة هويتك .. لذلك فالبطل قد يخسر المعركة ولكنه لا ينهزم ولا يـُسحق .
الرأس الأردني .. سيبقى عاليا .. شامخا ، مشمخرا ، على الرغم من غزو \" القمل \" له ، وامتصاص دمه ، ونقل الأمراض له ، سيأتي يوما ، تحلق اليدان الشعر الزائد ، ليعود الرأس الأردني نظيفا كما كان ، جميلا أكثر مما كان ، طيبا على عادته وسجية أبناءه .
وستبقى الهوية بطاقة تحتمل التزوير ، والإدعاء بصدقيتها ، ثم لا تثبت وطنية حاملها .. بل ما يثبت ذلك عمل الخير بين يديه ، واخلاصه لوطنه وأهله ، وولاءه لترابه ونظامه ، وحفاظه على مقدراته .
فليس كل من لبس العباءة أصبح شيخا ، ولا من ركب الفرس أصبح فارسا ، وإلا فإن \" لورنس \" هو شيخ مشايخ العرب ، وفارسهم ، وموقظ فجر تاريخهم .
ويبقى السوق سوق انتماء وولاء وطاعة وعمل .. حتى اني أكاد أدعي إن \" ابو عبده \" الصعيدي العامل في المزرعة هو أكبر منتم ، وهو أردني بلا منازع ، لأنه طبق من حيث لا يدري ، حكمة قالها أديب مصر الكبير قاسم أمين : \" الأرض لمن يعولها لا لمن يملكها \" .
أعذروني .. فالمرء قد تشابهت عليه الأسماء .. وتضاربت أمامه الأشياء ، حتى لم نعد نعلم بعد علمنا شيئا ، وإنني أزعم إن البلد يعيش أزمة هوية .. وحان الوقت لإعادة الأمور الى نصابها ، بعيدا عن الغوغائية ، والإقليمية ، وقتل جمال الواقع ، بقبح التوقعات ، بل العكس سيقتل الأفعى التي تشرب من ماءنا وتلغ فيه .
وسيبقى الأردن طودا تشق هامته السحاب ، وسيفا فيصلا يعيد الحق الى نصابه .. وسيبقى الاردنيون كفا قابضة على حبل تلاحمهم ، ضد كل مارق وسارق وطارىء ، كائن ما يكن .
بقي أن ننبه الحكومة التي لا تحتاج الى تنبيه ، بل تذكير قبل ان تمسح ذاكرتها هي الأخرى .. بأن تلتفت الى المواطن الاردني ، فهو أهم من أفراد قبيلة \" الطوارىء \" .. وان تغلب مصلحة الوطن على مصلحة الفرد المسؤول .. واتمنى ان لا يقرأ المسؤول كلمة \" الطوارىء \" على إنها قبيلة الطوارق المغاربية .. فالألسن الاردنية حاملة الهوية أصبحت تلحن كثيرا ، وتيأيىء القاف الأردنية كثيرا ، حتى ضاعت هوية اللهجة في غمرة ما ضاع .. و سامحونا .
ROYAL430@HOTMAIL.COM