شهداء الأمن العام اللذين فقدا حياتهما غيلة وغدراً على يد بعض القتلة قبل أيام قليلة، يستحقان التقدير والتكريم، ولهما تحية الإكبار والإجلال ولأهلهم وذويهم أسمى درجات العزاء، وندعو الله عز وجل أن يلهمهم جميل الصبر وعظيم الأجر على هذا المصاب الجلل، الذي أصاب كل الأردنيين ومس وجدانهم جميعا.
تتجلّى مصيبتنا الكبيرة في عدة وجوه كلها مريرة ومبكية، فالوجه الأول يتمثل بفقدان شابين من شباب الأردن اللذين يشهد لهما بحسن السيرة والاتزان والسمعة الجيدة، وهما من مرتبات الأمن العام هذا الجهاز الذي يشهد له بالكفاءة والاقتدار والذي يقوم بواجب حماية أمن المواطنين والسهر على حياتهم وحياة أبنائهم وأموالهم وأعراضهم ومساكنهم، حيث أن ما يتمتع به الأردنيون من أمن لا يقدر بثمن، ولا يعرف قدر ذلك إلّا أولئك الذين جربوا وذاقوا ويلات فقده، ويمكن سؤالهم وهم قريبون جداً منا، ونسمع حديثهم وبوحهم ونصحهم.
أما الوجه الثاني للمصيبة يتعلق بعوائلهم ونسائهم وأبنائهم الذين أصبحوا أيتاماً، وفقدوا نعمة الأب الذي كان يدخل عليهم في كل أسبوع وهو يحمل بعض الهدايا، وبعض أكياس الخضرة والفواكه،والبسمة على وجوههم وهم يحضنون أبناءهم الصغار الذين ينهالون عليهم بالأسئلة والطلبات، وهو يقبلهم ويعدهم بتلبية طلباتهم، فكيف ستكون مشاعر هؤلاء الصغار الذين فقدوا حضور الأب الحاني إلى الأبد، وليتخيل كل واحد منا أنه هو المفقود وأن أبناءه هم الأيتام.
أما الوجه الأكثر قتامة للمصيبة الذي يحز بالنفس أن القتل جاء على أيدي أفراد من شعبنا وأبناء مجتمعنا، ومن قبل بعض المواطنين الذين كان الشهيد يقدم لهم الحماية، ويبذل جهده في توفير أمنهم، ويفديهم بروحه وحياته، وينظر لهم من باب الأخوة في الدين والمواطنة والشراكة في الحياة والتراب والتاريخ والمستقبل والوطن واللغة والأماني والطموحات والمشتركات التي تعد ولا تحصى، ولو تم استشاهدهم على يد العدو المغتصب لهانت المصيبة، ولوجدنا ما نعزي به أنفسنا وأهلنا وشعبنا، ولكن المصيبة العظيمة أن يأتي الطعن بالظهر من الخلف ممن كان ينعم بتعبهم وعرقهم وسهرهم.
بقي الحديث عن ذلك الوجه الخطر لهذا الحدث وهو ما ينبغي أن يكون محل الاهتمام الاكبر، الذي يتمثل بتسلل فكر منحرف يبيح هذا العنف والاقدام على القتل والغدر والإجرام والخيانة، تحت غطاء ديني بكل أسف وكل اسى، أو يلبس لبوس عقدي مغرق بالتطرف المرفوض، الذي يمثل قنبلة موقوته بين ظهرانينا لا ندري متى تنفجر، وبمن تنفجر، وأين تنفجر، فهذا وضع خطر بالغ الخطورة بكل يقين، حيث يجب الانتباه إلى كل من يغذي هذا الفكر المنحرف، و إلى كل من يحاول أن يلبسه لباس الدين والتدين.
فكل من يتجرأ على تكفير مجتمعاتنا العربية والإسلامية يسهم في استنبات بذور هذا الخطر في عمق مجتمعاتنا وشعوبنا، وكل من يتجرأ على وصف البلاد العربية والإسلامية بأنها عبارة عن دار حرب، بناءً على اجتهادات ومقولات مجتزأة من أقوال بعض السابقين، إنما يقدم على نفخ شرر الفتنة، لأن من يقول بأننا نعيش في دار حرب يعني بكل وضوح بأنه لا عصمة لدم ولا لنفس ولا لمال، فكله مستباح على طريقة قصة الخوارج في تاريخنا القديم، مما يبيح لهم قتل الشرطة والجيش ورجال الدولة، بل يبيح لهم قتل المدنيين من نساء وأطفال أيضاً، لأنهم كلهم كفار مرتدين.
نحن بحاجة ماسة إلى وضع استراتيجية شاملة، يتم من خلالها استنفار كل الطاقات، وتعاون كل الجهود على كل الأصعدة، وربما تكون الجهود المبذولة على صعيد الفكر والتربية والوعي وفي مجال تنشئة العقل والوجدان هي الأكثر أهمية وخطورة، مما يجعلها محلاً للعناية البالغة، ويجب الاسراع بتوجيه موازنة كافية لهذا المجال دون إبطاء، ويجب أن ننتقل إلى أعلى درجات الاستنفار واليقظة في مجال العمل والتنفيذ، وليس في مجال الكلام والتنظير فحسب.
الدستور